وقوله الله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} .
حدَّثَنا يحيى1 بن بكير، ثنا الليث، عن عقيل، عن ابن شهاب، أنه كان يقول: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لم يأذن الله لشيء، ما أَذِنَ لنبيٍّ يتغَنَّى بالقرآن" .
وقال صاحب له: يريد يجهر به، فرَدَّ من هذا الوجه.
ثم رواه عن علي بن عبد الله بن المديني، عن سفيان بن عيينة، عن الزهري به, قال سفيان: تفسيره يستغني به.
وقد أخرجه مسلم والنسائي من حديث سفيان بن عُيَيْنَة به.
ومعناه: أن الله تعالى ما استمع لشيء كاستماعه لقراءة نبيٍّ يجهر بقراءته ويحسِّنُها، وذلك أنه يجتمع في قراءة الأنبياء طيب الصوت لكمال خلقهم
__________
1 البخاري في "فضائل القرآن" "9/ 68".
وأخرجه أيضًا في "التوحيد" "13/ 453", وفي "خلق الأفعال" "242"، ومسلم "792/ 232", والنسائي "2/ 180"، وفي "فضائل القرآن" "78"، والدارمي "1/ 288-289، 2/ 338-339"، وأحمد "2/ 271"، وأبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص78"، وعبد الرزاق "ج2/ رقم 4166" والحميدي "949"، والبزار "ج2/ ق141/ 2"، وأبو يعلى "ج109/ رقم 5959", وأخرون من طرق عن الزهري، عن أبي سلمة، عن أبي هريرة مرفوعًا.
ورواه عن الزهري خَلْقٌ، ذكرتهم في "التسلية" مع طرق أخرى.
وتمام الخشية، وذلك هو الغاية في ذلك، وهو -سبحانه وتعالى- يسمع أصوات العباد كلهم برهم وفاجرهم.
كما قالت عائشة -رضي الله عنها: سبحان الذي وسع سمعه الأصوات, ولكن استماعه لقراءة عباده المؤمنين أعظم، كما قال تعالى: {وَمَا تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَمَا تَتْلُو مِنْهُ مِنْ قُرْآَنٍ وَلَا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُودًا إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ} الآية، ثم استماعه لقراءة أنبيائه أبلغ، كما دلَّ عليه هذا الحديث العظيم.
ومنهم من فَسَّر الأذن ههنا بالأمر.
والأول أولى؛ لقوله: "ما أَذِنَ الله لشيء، ما أَذِنَ لنبيٍّ يتغَنَّى بالقرآن" أي: يجهر به، والأذن الاستماع؛ لدلالة السياق عليه، وكما قال تعالى: {إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ، وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ، وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ، وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ} [الانشقاق: 1-5]. أي: استمعت لربها وحقت، أي: وحق لها أن تستمع أمره وتطيعه، فالأذن ههنا، هو: الاستماع.
ولهذا جاء في حديث رواه ابن1 ماجه بسند جيِّدٍ عن فَضَالَةَ بن عُبَيْدٍ
__________
1 أخرجه ابن ماجه "1340"، وأحمد "6/ 20"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "4/ 1/ 124"، وابن حبان "659"، وابن نصر في "قيام الليل" "ص58"، والطبراني في "الكبير" "ج18/ رقم 772"، والبيهقي "10/ 230"، والسمعاني في "أدب الإملاء" "ص93-94" من طرق عن الوليد بن مسلم ثنا الأوزاعي، عن إسماعيل بن عبيد الله، عن ميسرة مولى فَضَالَةَ، عن فَضَالَةَ بن عُبَيْدٍ مرفوعًا، فذكره.
قال البوصيري في "الزوائد" "436/ 1": "هذا إسناد حسن". =
قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لله أشد أذنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القَيْنَةِ إلى قَيْنَتِه" .
وقول سفيان بن عيينة: إن المراد بالتغنِّي: يستغني به، فإن أراد أنه يستغني به عن الدنيا، وهو الظاهر من كلامه الذي تابعه عليه أبو عبيد القاسم بن سلَّام وغيره، فخلاف الظاهر من مراد الحديث؛ لأنه قد فسَّره بعض رواته بالجهر، وهو تحسين القراءة والتحزين بها.
قال حرملة: سمعت ابن عُيَيْنَةَ يقول: معناه: يستغني به، فقال لي الشافعي: ليس هو هكذا، ولو كان هكذا لكان يتغانَى، إنما هو يتحزَّن
__________
= وجوَّدَه المصنف كما رأيت، وفي قولهما تسامح؛ لأن ميسرة هذا قال الذهبي: في "الميزان": "ما حدَّث عنه سوى إسماعيل بن عُبَيْد الله", فهو مجهول العين وإن وثَّقَه ابن حِبَّان كما هو معروف.
كيف وقد اختُلِفَ على الوليد بن مسلم في إسناده، فقد رواه دحيم وإسحاق بن إبراهيم الطالقاني عن الوليد, ثنا الأوزاعي، عن إسماعيل بن عُبَيْد الله, عن فَضَالََةَ بن عُبَيْد مرفوعًا. فسقط ذكر "ميسرة".
أخرجه أحمد "6/ 19", والحاكم "1/ 570-571" وقال: "صحيح على شرط الشيخين"، فردَّه الذهبي بقوله: "منقطع"، وهذا الوجه أرجح من الأول؛ لأن يحيى بن حمزة والوليد بن مزيد وبشر بن بكر ومحمد بن شعيب بن شابور، رووه عن الأوزاعي، عن إسماعيل بن عُبَيْد، عن فَضَالَةَ بن عُبَيْد مثله. أخرجه أبو عبيد في "الفضائل" "ص77-78"، والحاكم "1/ 570-571"، والآجري في "أخلاق حملة القرآن" "80"، والبيهقي في "الشعب" "ج5/ رقم 1957", وتابعه ثور بن يزيد، عن إسماعيل بن عُبَيْد الله، عن فَضَالَةَ. أخرجه البخاري في "الكبير" "4/ 1/ 124", فهذا الوجه أقوى بلا ريب، فالصواب في الإسناد أنه ضعيف من الوجهين. والله أعلم.
ويترنَّمُ به.
قال حرملة: وسمعت ابن وهب يقول: يترنَّمُ به, وهكذا نقل المزني والربيع عن الشافعي -رحمه الله.
وعلى هذا فتصدير البخاري الباب بقوله تعالى: {أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَرَحْمَةً وَذِكْرَى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ} [العنكبوت: 51] فيه نظر؛ لأن هذه الآية الكريمة ذُكِرَت ردًّا على الذين سألوا آيات تدل على صدقه، حيث قال: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آَيَاتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآَيَاتُ عِنْدَ اللَّهِ وَإِنَّمَا أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ، أَوَلَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْكِتَابَ يُتْلَى عَلَيْهِمْ} [العنكبوت: 50-51], ومعنى ذلك: أو لم يكفهم آية دالَّة على صدقك: إنزالنا القرآن عليك وأنت رجل أمي؟ {وَمَا كُنْتَ تَتْلُو مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لَارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ} [العنكبوت: 48], أي: وقد جئت فيه بخبر الأولين والآخرين، فأين هذا من التغنِّي بالقرآن وهو تحسين الصوت به أو الاستغناء به عمَّا عداه من أمور الدنيا؟ فعلى كل تقديرٍ تصدير الباب بهذه الآية فيه نظر.
فصل:
في إيراد أحاديث في معنى الباب, وذكر أحكام التلاوة بالأصوات
قال أبو عُبَيْد1: حدَّثَنا عبد الله بن صالح، عن قباث بن رَزِين،
__________
1 في "فضائل القرآن" "ص29".
وأخرجه النسائي في "فضائل القرآن" "60، 74"، وأحمد "4/ 150، 153", وأبو يعلى "ج3/ رقم 1740", والطبراني في "الكبير" "ج18/ رقم 800، 802" من طرق عن قباث بن رَزِين، عن علي بن رباح, عن عقبة بن عامر مرفوعًا. ورواه عن قباث: "عبد الله بن صالح، وعبد الله بن يزيد المقري، وعبد الله بن المبارك، والليث بن سعد", وسنده جيد. وقباث وَثَّقَه ابن معين وابن حِبَّان, وقال أحمد وأبو حاتم: "لا بأس به"، وقد توبع كما يأتي، إن شاء الله تعالى.
عن علي بن رباح اللخمي، عن عقبة بن عامر قال: خرج علينا رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يومًا ونحن في المسجد نتدارس القرآن، قال: "تعلموا كتاب الله واقتنوه" -قال: وحسبت أنه قال: "وتغنوا به"- "فوالذي نفسي بيده لهو أشد تفلُّتًا من المخاض من العقل" .
وحدثنا عبد الله1 بن صالح، عن موسى بن علي، عن أبيه، عن عقبة, عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثل ذلك، إلّا أنه قال: "واقتنوه وتَغَنَّوْا به" . ولم يشك.
وهكذا رواه "أحمد"2 النسائي في .................................
__________
1 أخرجه أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص29".
وأخرجه النسائي في "فضائل القرآن" "59"، والدارمي "2/ 316"، وأحمد "4/ 146"، وابن أبي شيبة "2/ 500، 10/ 477"، وابن حِبَّان "1788"، وابن نصر في "قيام الليل" "ص97"، والطبراني في "الكبير" "ج18/ رقم 801"، والبيهقي في "الشعب" "ج4/ رقم 1815" من طرق عن موسى بن رباح، عن أبيه، عن عقبة بن عامر مثله, وسنده جيد أيضًا. وموسى بن علي فيه كلام يسير، وهو متابع كما مَرَّ آنفًا.
2 ساقط من "أ" و"ط" ولم أر واو العطف بينهما، فيكون الإمام أحمد رواه هو والنسائي، ويحتمل أنه يقصد: "رواه أحمد النسائي"، والنسائي اسمه: "أحمد بن شعيب"، وأستبعد أن يعني ابن كثير هذا، فلم يجر على هذا التعبير، إلّا أن يكون سقط من السياق "ابن شعيب"، وعلى كل حال فقد رواه الإمام أحمد والنسائي كما مَرَّ بك, والحمد لله.
"كتاب"1 فضائل القرآن" من حديث موسى بن علي عن أبيه به، ومن حديث عبد الله بن المبارك، عن قباث بن رَزِين، عن عليّ بن رباح، عن عقبة.
وفي بعض ألفاظه: خرج علينا ونحن نقرأ القرآن فسلَّم علينا. وذكر الحديث.
ففيه دلالة على السلام على القارئ.
"ثم قال"2 أبو عُبَيْد3: حدَّثَنا أبو اليمان، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم، عن ................
__________
1 ساقط من "جـ" و"ط".
2 في "أ": "وقال".
3 في "فضائل القرآن" "ص29".
كذا رواه أبو اليمان الحكم بن نافع مرسلًا.
وخالفه بقية بن الوليد والوليد بن مسلم، فروياه عن أبي بكر بن أبي مريم، عن المهاصر بن حبيب، عن عُبَيْدَةَ الأملوكي مرفوعًا، فذكره.
أخرجه البيهقي في "الشعب" "ج4/ رقم 1852"، وأبو نُعَيْم في "أخبار أصبهان" "1/ 260"، وأبو القاسم الأصبهاني في "الترغيب" "2270"، وابن عساكر في "تاريخ دمشق" "ج4/ ق596"، وعزاه الهيثمي في "المجمع" "2/ 252" للطبراني في "الكبير", وضعَّفَه بـ "أبي بكر بن أبي مريم", وخالفهما عيسى بن يونس وموسى بن أعين، فروياه عن أبي بكر بن أبي مريم، عن المهاصر بن حبيب، عن عُبَيْدَةَ الأملوكي صاحب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فذكره موقوفًا. أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" "3/ 2/ 84", والبيهقي في "الشعب" "1853، 1854"، وأخرجه البخاري أيضًا من طريقين آخرين عن عُبَيْدَةَ قوله. والموقوف أشبه.
"المهاصر"1 بن حبيب قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يا أهل القرآن لا توسدوا القرآن، واتلوه حقَّ تلاوته آناء الليل والنهار، وتَغَنّوه وتقنوه، واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون" .
وهذا مرسل، ثم قال أبو عبيد: قوله: "تغنوه" أي: اجعلوه غناءكم من الفقر، ولا تعدوا الإقلال معه فقرًا.
وقوله "وتقنوه" يقول: اقتنوه كما تقتنوا الأموال، اجعلوه مالكم, وقال أبو عُبَيْد2: حدثني هشام بن عمار، عن علي بن حمزة، عن الأوزاعي قال: حدثني إسماعيل بن عُبَيْد الله بن أبي المهاجر، عن فَضَالَةَ بن عُبَيْد, عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "الله أشد أذَنًا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القَيْنَةِ إلى قَيْنَتِه" .
قال أبو عُبَيْد: هذا الحديث بعضهم يزيد في إسناده، يقول: عن إسماعيل بن عُبَيْد الله، عن مولى فَضَالَةَ، عن فَضَالَةَ.
وهكذا رواه ابن ماجه2 عن راشد بن سعيد بن أبي راشد، عن الوليد، عن الأوزاعي، عن إسماعيل بن عُبَيْد الله، عن مَيْسَرة مولى فَضَالَةَ، عن فَضَالَةَ, عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لله أشد أذَنًا إلى الرجل الحسَنِ الصوت بالقرآن من صاحب القَيْنَةِ إلى قَيْنَتِه" .
قال أبو عُبَيْد: يعني: الاستماع.
وقوله في الحديث الآخر: "ما أذن الله لشيء" أي: ما استمع.
وقال أبو القاسم3 البغوي: حدثنا محمد بن حميد، ثنا سلمة بن
__________
1 في "أ": "المهاجر".
2 مَرَّ تخريجه آنفًا "ص180، 181".
3 أخرجه المخلص في "الفوائد" "ق52/ 1" من طريق محمد بن حميد بسنده سواء.
وسنده واهٍ، وابن حميد متروك، وكذَّبَه جماعة من أهل الرَّي.
الفضل، ثنا عبد الله بن عبد الرحمن بن أبي مليكة، حدثنا القاسم بن محمد، حدثني السائب قال: قال لي سعد: يا ابن أخي، هل قرأت القرآن؟ قلت: نعم، قال: غَنِّ به، فإني سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "غَنُّوا بالقرآن، ليس منَّا مَنْ لم يُغَنَّ بالقرآن، وابكوا, فإن لم تقدروا على البكاء فتباكوا" .
وقد روى أبو داود1 من حديث الليث "وعمرو بن دينار كلاهما"2, عن عبد الله بن أبي مليكة, عن عُبَيْد الله بن أبي نَهِيك، عن سعد بن أبي وقاص قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن" 2.
3[ ورواه ابن ماجه4 من حديث ابن أبي مليكة، عن عبد الرحمن بن السائب، عن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ]3:
__________
وسنده واهٍ، وابن حميد متروك، وكذَّبَه جماعة من أهل الرَّي.
1 في "سننه" "1469، 1470" وسنده صحيح، وقد اختلف على ابن أبي مليكة في سنده اختلافًا كثيرًا، ذكرته في "التسلية"، وأقوى الوجوه في هذا الاختلاف ما رواه أبو داود هنا. ولله الحمد.
2 ساقط من "أ".
"3-3" ساقط من "أ".
4 في "سننه" "1337" من طريق الوليد بن مسلم، ثنا أبو رافع، عن ابن أبي مليكة به.
وأخرجه أبو يَعْلَى "689", والحارث بن أبي أسامة -كما في "تخريج أحاديث الكشاف" "2/ 329" للزيلعي، والآجري في "أخلاق حملة القرآن" "85"، وأبو العباس الأصم في "الثاني من حديثه" "ق171، 1", وابن نصر في "قيام الليل" -كما في "اتحاف السادة" "4/ 479" للزبيدي، والبيهقي "10/ 230" وفي "الشعب" "ج5/ رقم 1891، 1960" من طرق عن الوليد بن مسلم.
وعزاه البوصيري في "الزوائد" "434/ 1" للحاكم في "المستدرك"، وقال: "هذا إسناد فيه أبو رافع، واسمه إسماعيل بن رافع، ضعيف متروك". أ.هـ. فالعجب من العراقي -رحمه الله؛ إذ قال في "تخريج أحاديث الإحياء" "1/ 277": "إسناده جيد"!!
"إن هذا القرآن نزل بحُزْنٍ، فإذا قرأتموه، فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، وتَغَنُّوا به، فمن لم يَتَغَنَّ به فليس منا" .
1[وقال أحمد2: حدثنا وكيع، ثنا سعيد بن حسان المخزومي، عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن أبي نهيك، عن سعد بن أبي وقاص، قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن" .
قال وكيع: يعني يستغني به.
ورواه أحمد3 أيضًا عن حجاج وأبي النضر، كلاهما عن الليث بن سعد, وعن سفيان بن عيينة، عن عمرو بن دينار، كلاهما عن عبد الله ابن أبي مليكة]1. وفي هذا الحديث كلام طويل يتعلق بسنده، ليس
__________
"1-1" ساقط من "أ" و"ط".
2 في "مسنده" "1476", وأخرجه الطيالسي "201", والدورقي في "مسند سعد" "127", وإسناده جيد.
وأشار الحاكم في "المستدرك" "1/ 569" إلى رواية سعيد بن حسان.
3 في "مسنده" "1512، 1549" ولم يروه مجموعًا هكذا، بل هذا من تصرُّفِ المصنِّف -رحمه الله.
فأما رواية الليث فأخرجها: أبو داود "1469"، والدارمي "2/ 328"، وعبد بن حميد في "المنتخب" "151"، وأبو عبيد "ص109"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 128", وابن حبان "120"، والحاكم "1/ 569"، والبيهقي "10/ 230"، والقضاعي في "مسند الشهاب" "1202"، =
هذا موضوعه. والله أعلم.
وقال أبو داود1: ثنا عبد الأعلى بن حماد، ثنا عبد الجبار بن الورد قال: سمعت ابن أبي مليكة يقول: قال عُبَيْد الله بن أبي يزيد: مَرَّ بنا أبو لبابة، فاتبعناه حتى دخل بيته، فدخلنا عليه، فإذا رجل رثّ البيت
__________
= والرافعي في "أخبار قزوين" "2/ 268", وقد اختُلِفَ فيه على الليث. وأما رواية ابن عيينة فأخرجها: أبو داود "1470"، والدارمي "1/ 288", والحميدي "76"، وابن أبي شيبة "2/ 522، 10/ 464"، وعبد الرزاق "4171", والبزار في "مسنده" "163 -مسند سعد"، وأبو يعلى "748"، وابن نصر في "قيام الليل" "ص139", والطحاوي في "المشكل" "2/ 127"، والبيهقي "10/ 230", وفي "الشعب" "2375", والقضاعي "1194"، والضياء في "المختارة" "971", وما رواه الليث وسفيان هو أقوى الوجوه كلها. والله أعلم.
1 في "سننه" "1471".
وأخرجه ابن أبي عاصم في "الآحاد والمثاني" "1903", وابن قانع في "معجم الصحابة" "1/ 16/ 2"، والطحاوي في "المشكل" "2/ 128"، والطبراني في "الكبير" "ج5/ رقم 4514"، والبيهقي في "الكبرى "2/ 54، 10/ 230", وفي "الصغرى" "983" من طريق عبد الجبار ابن الورد بسنده سواء. قال الهيثمي في "المجمع" "8/ 171": "رجاله ثقات", وقال الحافظ في "الفتح" "9/ 72": "إسناده صحيح" وفيه نظر ذكرته في "التسلية", وعزاه المنذري في "الترغيب" "2/ 365" لأبي داود ثم قال: "والمرفوع منه في "الصحيحين" من حديث أبي هريرة". أ.هـ. كذا قال, وعَزْوه الحديث لمسلم وَهْمٌ، فإنه من أفراد البخاري، ثم الحديث عن أبي هريرة شاذ بلفظ: "ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن" كما حققته في "تسلية الكظيم" "رقم 73".
قلت: وهو أحد وجوه الاختلاف على ابن أبي مليكة في إسناده.
رثَّ الهيئة، فانتسبنا له، فقال: تجار كسبة "تجار كسبة"1، فسمعته يقول: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن" قال: فقلت لابن أبي مليكة: يا أبا محمد، أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت، قال: يحسنه ما استطاع.
تفرَّد به أبو داود، فقد فهم من هذا أن السلف -رضي الله عنهم, إنما فهموا من التغنِّي بالقرآن إنما هو: تحسين الصوت به وتحزينه، كما قاله الأئمة -رحمهم الله.
ويدل على ذلك أيضًا ما رواه أبو داود2، حيث قال: ثنا عثمان
__________
1 من "جـ" و"ط". واعلم أن هذه العبارة: "فانتسبنا فقال: تجار كسبة" ليست موجودة في نسخ "أبي داود" المطبوعة، والله أعلم، ثم رأيت الحافظ في "الفتح" "9/ 69" عزاه لأبي داود وابن الضريس في "فضائل القرآن", وأبي عوانة في "مستخرجه" من طريق ابن أبي مليكة، عن عُبَيْد الله بن أبي نهيك قال: "لقيني سعد بن أبي وقاص وأنا في السوق فقال: تجار كسبة... ثم ساق الحديث". والاختلاف في صحابي الحديث واضح، ولم أجد الحديث في كتاب ابن الضريس المطبوع. والله أعلم.
ثم اعلم أن الطحاوي ذكر أن قوله في الإسناد: "عُبَيْد الله بن أبي يزيد" غلط صوابه: "ابن أبي نهيك", وقد وقع ما ذكره الطحاوي في رواية الطبراني "4514" التي سبق وذكرناها, وسُئِلَ ابن معين كما في "تاريخه" "2/ 384 -رواية الدوري": "سمع عُبَيْد الله بن أبي يزيد من أبي لبابة؟ قال: لا أدري". أ.هـ.
2 في "سننه" "1468".
وأخرجه البخاري في "خلق الأفعال" "68"، والنسائي في "سننه" "2/ 179، 180"، وفي "فضائل القرآن" "75"، وفي "مجلسان من إملائه" "46"، وابن ماجه "1342"، والدارمي "2/ 474"، وأحمد "4/ 283، 285، 304", وآخرون من طُرُقٍ عن طلحة بن مصرف، عن عبد الرحمن بن عوسجة، عن البراء بن عازب مرفوعًا، فذكره.
ابن أبي شيبة، ثنا جرير، عن الأعمش، عن طلحة، عن عبد الرحمن ابن عوسجة، عن البراء بن عازب قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "زيِّنُوا القرآن بأصواتكم" .
وأخرجه النسائي وابن ماجه من حديث شعبة عن طلحة.
وهذا إسناد جيد, وقد وَثَّقَ النسائي وابن حِبَّان عبد الرحمن بن عوسجة هذا, ونقل الأزدي عن يحيى بن سعيد القطان أنه قال: سألت عنه بالمدية فلم أرهم يحمدونه.
وقال أبو عُبَيْد القاسم1 بن سلام: حدثنا يحيى بن سعيد عن شعبة قال: نهاني أيوب أن أحدث بهذا الحديث "زينوا القرآن بأصواتكم" .
قال أبو عبيد: وإنما كره أيوب فيما نرى أن يتأوَّل الناس بهذا الحديث الرخصة من رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في الألحان المبتدعة، فلهذا نهاه أن يحدِّث به.
"قلت": ثم إن شعبة -رحمه الله- روى الحديث متوكلًا على الله كما روي له، ولو ترك كل حديث يتأوّله مبطل، لترك من السنة شيء كثير، بل قد تطرقوا إلى تأويل آيات كثيرة من القرآن، وحملوها على غير محاملها الشرعية المرادة، وبالله المستعان وعليه التكلان، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
والمراد من تحسين الصوت بالقرآن تطريبه وتحزينه والتَّخَشُّع به، كما رواه الحافظ الكبير بَقِيُّ بن مَخْلَدٍ -رحمه الله- حيث قال: ثنا أحمد ابن إبراهيم، 2[ثنا يحيى بن سعيد الأموي، ثنا طلحة بن يحيى بن طلحة، عن أبي بردة بن أبي موسى]2، عن أبيه، قال: قال لي رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
1 في "فضائل القرآن" "2-81".
"2-2" ساقط من "أ".
ذات يوم: "يا أبا موسى، لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة" , قلت: أما والله لو علمت أنك تسمع قراءتي، لحبَّرتُها لك تحبيرًا.
ورواه مسلم1 من حديث طلحة به. وزاد: "لقد أوتيت مزمارًا من مزامير آل داود" . وسيأتي هذا في بابه حيث يذكره البخاري.
والغرض أن أبا موسى قال: لو أعلم أنك تسمعه لحبَّرتُه لك تحبيرًا, فدَلَّ على جواز تعاطي ذلك وتكلفه، وقد كان أبو موسى كما قال عليه السلام: قد أعطي صوتًا حسنًا، كما سأذكره إن شاء الله، مع خشية تامة ورقة أهل اليمن "الموصوفة"2، فدلَّ على أن هذا من الأمور الشرعية.
قال أبو عبيد3: وحدَّثَنا عبد الله بن صالح، عن الليث، عن يونس،
__________
1 في "صحيحه" "793/ 236".
وأخرجه أيضًا ابن حِبَّان "7198"، والبيهقي "10/ 230-231" بهذا التمام ويأتي تخريجه قريبًا.
2 ساقط من "أ".
3 في "فضائل القرآن" "ص79", وليس عنده لفظة: "ربنا".
وأخرجه الدارمي "2/ 329" قال: حدَّثَنا عبد الله بن صالح بسنده سواء, وأخرجه ابن سعد "4/ 109" وأبو نُعَيْم في "الحلية" "1/ 258", والطحاوي في "المشكل" "2/ 161" من طريق يونس، عن الزهري، عن أبي سلمة أن عمر بن الخطاب... إلخ.
وأخرجه عبد الرزاق "ج2/ رقم 4179، 4180، 4181"، وابن حِبَّان "2264" من طريق معمر بن راشد وابن جريج وعمرو بن الحارث، ثلاثتهم عن الزهري بسنده سواء.
وهو منقطع بين أبي سلمة وعمر بن الخطاب -رضي الله عنه، ولم يسمع أيضًا من أبي موسى كما قال أحمد، على ما ذكره ابن أبي حاتم في "المراسيل" "ص255"، وله طريقان آخران عند ابن سعد "4/ 109" أحدها معضل والآخر منقطع.
عن ابن شهاب، عن أبي سلمة قال: كان عمر إذا رأى أبا موسى قال: ذكِّرْنَا ربَّنا يا أبا موسى، فيقرأ عنده.
قال أبو عبيد1: "حدثنا إسماعيل بن إبراهيم قال"2: ثنا سليمان التيمي أو نبئت عنه، ثنا أبو عثمان النهديّ قال: كان أبو موسى يصلي بنا، فلو قلت: إني لم أسمع صوت صَنْجٍ3 قط, ولا بَرْبَطٍ4 قط, ولا شيئًَا قط أحسن من صوته.
وقال ابن ماجه5: حدَّثَنا العباس بن عثمان الدمشقي، ثنا الوليد بن
__________
1 في "فضائل القرآن" "ص79".
وأخرجه ابن سعد في "الطبقات" "4/ 108" قال: أخبرنا إسماعيل بن إبراهيم الأسدي -وهو ابن علية- بسنده سواء. هكذا شك ابن علية أَسَمِعَه عن التيميّ أم بَلَغَه عنه، لكن أخرجه أبو نُعَيْم في "الحلية" "1/ 258" من طريق صفوان بن عيسى، والبخاري في "خلق الأفعال" "291" عن المعتمر بن سليمان قالا: ثنا سليمان التيمي بسنده سواء.
وعزاه الحافظ في "الفتح" "9/ 93" لابن أبي داود وقال: "سنده صحيح".
2 ساقط من "الأصول" كلها واستدركته من "الفضائل".
3 الصَّنْج -بفتح المهملة وسكون النون بعدها جيم: هو آلة تُتَّخَذُ من النحاس كالطبقين يضرب أحدهما بالآخر.
4 البربط: بالموحدتين بينهما راء ساكنة ثم طاء مهملة، بوزن: "جعفر"، وهو آلة تشبه العود, فارسي معرَّب. وانظر "النهاية" "1/ 112".
5 في "سننه" "1338", وقال البوصيري في "الزوائد" "435/ 1": "هذا إسناد صحيح رجاله ثقات".
وأخرجه الحاكم "3/ 225-226"، وأبو نُعَيْم في "الحلية" "1/ =
مسلم، حدَّثني حنظلة بن أبي سفيان، أنه سمع عبد الرحمن بن سابط الجمحي يحدِّث عن عائشة قالت: أبطأت على رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- ليلة بعد العشاء، ثم جئت فقال: "أين كنت" ؟, قلت: كنت أسمع قراءة رجل من أصحابك، لم أسمع مثل قراءته وصوته من أحد, قالت: فقام فقمت معه حتى استمع له، ثم التفت إليّ فقال: "هذا سالم مولى أبي حذيفة، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا" .
إسناده جيد.
وفي "الصحيحين"1 عن جبير بن مطعم قال: سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
__________
= 371" من طرق عن الوليد بن مسلم، ثنا حنظلة بن أبي سفيان أنه سمع عبد الرحمن بن سابط يُحَدِّثُ عن عائشة به.
قال الحاكم: "صحيح على شرط الشيخين", ووافقه الذهبي، وليس كما قالَا؛ لأن عبد الرحمن بن سابط لم يخرِّج له البخاري شيئًا، ولم يحتجَّ الشيخان ولا أحدهما برواية الوليد عن حنظلة، ولا حنظلة عن عبد الرحمن، ولا عبد الرحمن عن عائشة, فالصواب أن السند صحيح مطلقًا، وصرَّح الوليد في جميع الإسناد، ثم هو لم يتفرَّد به، فقال أبو نُعَيْم عقبه: "ورواه ابن المبارك عن حنظلة", قلت: وهو عنده في "الجهاد" "120", ووقع في سنده اختلاف.
وأخرجه أحمد "6/ 165" قال: حدثنا ابن نمير، ثنا حنظلة بسنده سواء, وهو صحيح أيضًا.
وأخرجه البزار "ج3/ رقم 2694" من وجه آخر عن عائشة بأخصر من حديث ابن سابط، قال الهيثمي "9/ 300": "رجاله رجال الصحيح", وقال الحافظ في "الإصابة" "3/ 16": "رجاله ثقات". وليس في هذا تصحيح للإسناد لأجل عنعنة ابن جريج. والله أعلم.
1 أخرجه البخاري "2/ 247، 6، 168، 7، 323، 8/ 603، ومسلم "463" من طريق الزهري عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه. وأخرجه أبو داود "811"، والنسائي في "سننه" "2/ 169"، وفي "تفسيره" "549"، وابن ماجه "832"، وأحمد "4/ 80، 84" من هذا الوجه.
يقرأ في المغرب بالطُّور، فما سمعت أحدًا أحسن صوتًا أو قراءة منه.
وفي بعض ألفاظه: فلما سمعته قرأ: {أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ} خِلْتُ أن فؤادي قد انصدع.
وكان جبير لمَّا سمع هذا بعد مشركًا على دين قومه, وإنما كان قَدِمَ في فداء الأسارى بعد بدر، وناهيك بِمَنْ تؤثِّرُ قراءته في المشرك المصر على الكفر، فكان هذا سبب هدايته، ولهذا كان أحسن القراءات ما كان عن خشوع من القلب.
كما قال أبو عبيد1: حدَّثَنَا إسماعيل بن إبراهيم، عن ليث، عن طاوس قال: أحسن الناس صوتًا بالقرآن أخشاهم لله.
2[وحدَّثَنَا قبيصة، عن سفيان، عن ابن جريج، عن ابن طاوس, عن أبيه قال: أحسن الناس صوتًا بالقرآن أخشاهم لله]2.
__________
1 في "فضائل القرآن" "ص80", وفي "غريب الحديث" "2/ 141", وأخرجه ابن أبي شيبة "10/ 464" قال: حدَّثَنَا حفص، عن ليث، عن طاوس، قال: كان يقال: أحسن الناس صوتًا بالقرآن أخشاهم لله. وسنده ضعيف لأجل ليث بن أبي سليم، وقد خولف فيه كما يأتي.
"2-2" ساقط من "جـ" و"ط", وهو عندي خطأ من الناسخ، فقد انتقل بصره إلى السند التالي له، وأَلْحَقَ به متن الأثر السابق، ولم أجد في "كتاب أبي عُبَيْد" إلّا الرواية التي يرويها ابن جريج عن ابن طاووس وعن الحسن بن مسلم، كلاهما عن طاوس. فالله أعلم.
وحدَّثَنَا1 قبيصة، عن سفيان، عن ابن جريج، عن ابن طاوس عن أبيه، وعن الحسن بن مسلم، عن طاوس قال: سُئِلَ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: أيُّ الناس أحسن صوتًا بالقرآن؟ فقال: "الذي إذا سمعته رأيته يخشى الله" .
وقد رُوِيَ هذا متصلًا من وجه آخر.
فقال ابن ماجه2: حدَّثَنَا بشر بن معاذ الضرير، ثنا عبد الله بن جعفر المديني، ثنا إبراهيم بن إسماعيل، عن مجمع، عن أبي الزبير، عن جابر قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن من أحسن الناس صوتًا بالقرآن، الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله" .
ولكن عبد الله بن جعفر هذا -وهو والد علي بن المديني- وشيخه ضعيفان، والله أعلم.
والغرض أن المطلوب شرعًا، إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تَدَبُّرِ القرآن وتفهمه، والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة.
فأما الأصوات بالنغمات المحدثة، المركبة على الأوزان، والأوضاع الملهية والقانون الموسيقائي، فالقرآن يُنَزَّه عن هذا ويجل ويعظم أن يسلك في أدائه هذا المذهب.
__________
1 أخرجه أبو عبيد "ص80" أيضًا.
وهذه الرواية أرجح من رواية ليث بن أبي سليم المتقدمة مع إرسالها.
2 في "سننه" "1339".
وأخرجه الآجري في "أخلاق حملة القرآن" "83"، وفي "فوائده"، وابن أبي داود في "كتاب الشريعة" -كما في "إتحاف السادة" "4/ 521", وضعَّفَ إسناده البوصيري في "الزوائد" "436/ 1", وسبقه شيخه العراقي في "تخريج الإحياء" "1/ 286"، والصواب أنه ضعيف جدًّا. والله أعلم.
وقد جاءت السُّنَّةُ بالزجر عن ذلك، كما قال الإمام العلم أبو عُبَيْد1 القاسم بن سلام -رحمه الله: حدَّثَنَا نُعَيْم بن حمَّاد، عن بقية بن الوليد، عن حُصَيْن بن مالك الفزاري قال: سمعت شيخًا يكنى أبا محمد يحدِّثُ عن حذيفة بن اليمان، قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين، وسيجيء قوم من بعدي يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم".
وحدثنا2 يزيد، عن شريك، عن أبي اليقظان عثمان بن عمير، عن
__________
1 في "فضائل القرآن" "ص80".
وأخرجه ابن نصر في "قيام الليل" "ص35"، ويعقوب بن سفيان في "المعرفة" "2/ 480"، والحكيم الترمذي في "نوادر الأصول" "ج3/ ق104/ 2"، والطبراني في "الأوسط" "ج2/ ق154/ 1"، وابن عدي في "الكامل" "2/ 510-511"، والبيهقي في "الشعب" "ج5/ رقم2406"، والجوزقاني في "الأباطيل" "723"، وابن الجوزي في "الواهيات" "1/ 118" من طريق بقية بن الوليد، عن الحصين بن مالك الفزاري، عن أبي محمد، عن حذيفة مرفوعًا به.
قال الطبراني: "لا يُرْوَى هذا الحديث عن حذيفة إلّا بهذا الإسناد، تفرَّدَ به بقية".
قلت: وهو صدوق، لكنه يدلِّسُ تدليس التسوية، كما صرَّح به أبو حاتم في "العلل" "1957" وشيخ بقية وشيخه مجهول، والخبر منكر كما قال الذهبي. والله أعلم.
2 أبو عبيد في "فضائل القرآن" "ص81", وفي "الغريب" "2/ 141", وأخرجه أحمد "3/ 494"، والبخاري في "التاريخ" "4/ 1/ 80", وعنه البيهقي في "الشعب" "5/ 583", والطحاوي في "المشكل" "2/ 160", وأبو غرزة الحافظة في "مسند عابس" "ق2/ 1"، وابن أبي الدنيا في "العقوبات" "78/ 1" -كما في "الصحيحة" "979", والجوزقاني في "الأباطيل" "724" من طريق شريك النخعي بسنده سواء. وسنده ضعيف, وقال الجوزقاني: "باطل", وليس كما قال، والصواب أنه حديث حسن أو صحيح كما حققته في "التسلية".
زاذان أبي عمر، عن عليم قال: كنا على سطحٍ ومعنا رجل من أصحاب النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ -قال يزيد: لا أعلمه إلّا قال: عابس الغفاري, فرأي الناس يخرجون في الطاعون، قال: ما هؤلاء؟ قال: يفرون من الطاعون، فقال: يا طاعون خذني, فقالوا: أتتمَنَّى الموت, وقد سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "لا يتمنَّيَنَّ أحدكم الموت" ؟ فقال: إني أبادر خصالًا سمعت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يتخوفهن على أمته: بيع الحكم، والاستخفاف بالدم، وقطيعة الرحم، وقوم يتخذون القرآن مزامير، يُقَدِّمُون أحدهم ليس بأفقههم ولا أفضلهم إلّا ليغنيهم به غناء، وذكر خَلَّتَيْن آخرتين.
وحدثنا1 يعقوب بن إبراهيم، عن ليث بن أبي سليم، عن عثمان بن
__________
1 أبو عُبَيْد في "الفضائل" "ص81".
وأخرجه البخاري في "الكبير" "4/ 1/ 80", وعنه البيهقي في "الشعب" "ج5/ رقم 2409", والطبراني في "الكبير" "ج18/ رقم 58، 59" من طُرُقٍ عن ليث بن أبي سليم، وقد خالف شريكًا بإسقاط "عليم" من السند، وروايته أرجح من رواية شريك؛ فقد تابعه سليمان التيمي عند الطبراني "60".
وله طريق قوي يرويه موسى بن عبد الله الجهني عن زذان, عن عابس الغفاري. أخرجه الخرائطي في "مساوئ الأخلاق" "277"، والطبراني في "الكبير" "ج18/ رقم62، 63", وفي "الأوسط" "689" وقال الهيثمي "5/ 245": "رجاله رجال الصحيح".
وله شواهد عن جماعة من الصحابة.
عمير، عن زاذان، عن عابس الغفاري، عن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- مثل ذلك أو نحوه.
وحدَّثَنَا1 يعقوب، عن إبراهيم، عن الأعمش, عن رجل، عن أنس أنه سمع رجلًا يقرأ القرآن بهذه الألحان التي أحدث الناس، فأنكر ذلك ونهى عنه, وهذه طرق حسنة2 في باب الترهيب.
وهذا يدلُّ على أنه محذور كبير، وهو قراءة القرآن بالألحان التي يسلك بها مذاهب الغناء، وقد نصَّ الأئمة -رحمهم الله- على النهي عنه، فأما إن خرج به إلى التمطيط الفاحش، الذي يزيد بسببه حرفًا أو ينقص حرفًا، فقد اتفق العلماء على تحريمه، والله أعلم.
وقال الحافظ أبو بكر3 البزار: ثنا محمد بن معمر، ثنا روح، ثنا
__________
1 أبو عُبَيْد "ص81".
وخولف يعقوب بن إبراهيم؛ خالفه عبد الله بن إدريس، فرواه عن الأعمش، قال: قرأ رجل عند أنس بلحن من هذه الألحان، فَكَرِهَ أنس ذلك. أخرجه الدارمي "2/ 340", والمخالفة أن ابن إدريس جعله عن الأعمش عن أنس, ولم يسمع منه, والصواب أنه يروي عنه بالواسطة.
وأخرجه أيضًا ابن نصر في "قيام الليل" "ص237".
2 يعني: بتعاضدها, والله أعلم.
3 في "مسنده" "ج3/ رقم 2332 -كشف الأستار".
وأخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" "3/ 1/ 401" معلقًا, ووصله الحاكم "1/ 570"، والطبراني في "الكبير" "ج11/ رقم11239", والقضاعي في "مسند الشهاب" "1200", والشجري في "الأمالي" "1/ 87، 109" من طرق عن ابن الأخنس، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس مرفوعًا, قال الهيثمي "7/ 170": "رجال البزار رجال الصحيح".
قلت: وقد مرَّ الكلام عنه، وهذا أحد وجوه الاختلاف على ابن أبي مليكة في إسناده، وصرح الحاكم بشذوذ إسناده وقد فصلته في "التسلية". والله الحمد.
عُبَيْد الله بن الأخنس، عن ابن أبي مليكة، عن ابن عباس قال: قال رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "ليس منا من لم يَتَغَنَّ بالقرآن" , ثم قال: ""وإنما"1 ذكرناه، لأنهم اختلفوا على ابن أبي مليكة فيه، فرواه عبد الجبار بن الورد عنه، عن ابن أبي مليكة, عن أبي لبابة, ورواه عمرو بن دينار، والليث عنه عن ابن أبي نهيك عن سعد، ورواه عسل بن سفيان2 عنه عن عائشة، ورواه نافع3 بن عمر عنه عن ابن الزبير"4.
__________
1 في "أ": "ولناما".
2 أخرجه البخاري في "التاريخ الكبير" "3/ 1/ 401", وأبو يعلى "ج8/ رقم 4755", والبزار "ج3/ رقم 2334", والحاكم "1/ 570", وابن عدي في "الكامل" "5/ 2012". وقال الحاكم: "إسناده شاذ", وقال الهيثمي "2/ 267": "فيه عسل بن سفيان وَثَّقَه ابن حِبَّان وقال: يخطئ ويخالف، وضعَّفَه جمهور الأئمة" ولكنه لم يتفرَّد به, فتابعه أيوب السختياني عن ابن أبي مليكة، عن عائشة مرفوعًا به. أخرجه البزار "ج3/ رقم 2333", ولكن في سنده أبو أمية ابن يعلى وهو ضعيف -كما قال الهيثمي "7/ 170".
3 وقع في "الأصول": "نافع مولى ابن عمر"! ولفظة "مولى" مقحمة لا معنى لها, وإنما هو نافع بن عمر الجمحي، والله أعلم.
4 أخرجه البزار "ج3/ رقم 2335", والدولابي في "الكنى" "1/ 64- 65، 160" من طريق أبي حنيفة محمد بن ماهان الواسطي، قال: حدثنا نافع بن عمر الجمحي عن ابن أبي مليكة، عن عبد الله بن الزبير مرفوعًا فذكره، زاد الدولابي، "قال: وأنتم فتغنوا به ما استطعتم".
قال الهيثمي "7/ 170": "فيه محمد بن ماهان، قال الدارقطني: ليس بالقويّ، وبقية رجاله ثقات".