الخطبة الثانية
وفي موسم الحج للسنة الثانية عشرة من النبوة اتصل اثنا عشر رجلاً من الأوس والخزرج برسول الله عند العقبة بمنى فبايعوه وهي ما تسمى ببيعة العقبة الأولى.
روى البخاري في صحيحه عن عبادة بن الصامت أن رسول الله قال: ((تعالوا بايعوني على أن لا تشركوا بالله شيئًا, ولا تسرقوا ولا تزنوا, ولا تقتلوا أولادكم, ولا تأتوا ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم, ولا تعصوني في معروف, فمن وفى منكم فأجره على الله, ومن أصاب من ذلك شيئًا فستره الله, فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه)) قال: فبايعته, وفي نسخة فبايعناه على ذلك[1].
وبعد البيعة بعث رسول الله معهم أول سفير إلى يثرب يدعو الناس ويعلمهم أمر دينهم, وهو مصعب بن عمر العبدري رضي الله عنه, وكان من السابقين إلى الإسلام, ونزل مصعب على أسعد بن زرارة, وأخذا يبثان الإسلام في أهل يثرب حتى لم تبق دار من دور الأنصار إلا وفيها رجال ونساء مسلمون إلا دارين فقط, وقبل حلول الحج من السنة الثالثة عشرة من النبوة, أي بعد سنة فقط من بيعة العقبة الأولى عاد مصعب إلى مكة يحمل إلى رسول الله بشائر الفوز والقبول.
وفي موسم الحج لهذه السنة قدم من يثرب نحو من ثلاثة وسبعين رجلاً وامرأتان من المسلمين, وقد تساءلوا فيما بينهم وهم لم يزالوا في طريقهم حتى متى نترك رسول الله يطوف ويطرد في جبال مكة ويخاف؟ فلما قدموا مكة جرت بينهم وبين النبي لقاءات أدت إلى الاتفاق أن يجتمعوا في أواسط أيام التشريق في الشعب الذي عند العقبة حيث الجمرة الأولى من منى.
قال كعب: فنمنا تلك الليلة مع قومنا في رحالنا أي من حجاج المشركين حتى إذا مضى ثلث الليل خرجنا من رحالنا لميعاد رسول الله نتسلل تسلل القطا مستخفين, حتى اجتمعنا في الشعب عند العقبة, فاجتمعنا في الشعب ننتظر رسول الله ومعه عمه العباس بن عبد المطلب, وهو يومئذ على دين قومه إلا أنه أحب أن يحضر أمر ابن أخيه, وتوثق له وكان أول متكلم فقال: يا معشر الخزرج إن محمدًا منا حيث قد علمتم, وقد منعناه من قومنا ممن هو على مثل رأينا فيه, فهو في عز من قومه, ومنعة في بلده, وإنه قد أبى إلا الانحياز إليكم واللحوق بكم, فإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه, ومانعوه ممن خالفه, فأنتم وما تحملتم من ذلك, وإن كنتم ترون أنكم مسلموه وخاذلوه بعد الخروج إليكم فمن الآن فدعوه فإنه في عز ومنعة من قومه وبلده. قال كعب: فقلنا له: قد سمعنا ما قلت, فتكلم يا رسول الله فخذ لنفسك ولربك ما أحببت.
روى أحمد عن جابر قال: قلنا: يا رسول الله على ما نبايعك؟ قال: ((على السمع والطاعة في النشاط والكسل, وعلى النفقة في العسر واليسر, وعلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر, وعلى أن تقوموا في الله لا تأخذكم في الله لومة لائم, وعلى أن تنصروني إذا قدمت إليكم وتمنعوني مما تمنعون منه أنفسكم وأزواجكم وأبناءكم ولكم الجنة)) [2], وفي رواية ابن إسحاق؛ فأخذ البراء بن معرور بيده ثم قال: نعم, والذي بعثك بالحق لنمنعنك مما نمنع أزرنا منه, فبايعنا يا رسول الله, فنحن والله أبناء الحرب وأهل الحلقة ورثناها كابر عن كابر.
قال: فاعترض القول أبو الهيثم بن التيهان فقال: يا رسول الله: إن بيننا وبين الرجال حبالاً وإنا قاطعوها ـ يعني اليهود ـ فهل عسيت إن نحن فعلنا ذلك ثم أظهرك الله أن ترجع إلى قومك وتدعنا؟ قال: فتبسم رسول الله ثم قال: ((بل الدم الدم, والهدم الهدم, أنا منكم وأنتم مني, أحارب من حاربتم, وأسالم من سالمتم))[3].
قال العباس بن عبادة بن نضلة هل تدرون علام تبايعون هذا الرجل؟ قالوا: نعم. قال: إنكم تبايعونه على حرب الأحمر والأسود من الناس, فإن كنتم ترون أنكم إذا نهكت أموالكم مصيبة, وأشرافكم قتلاً أسلمتموه فمن الآن, فهو والله إن فعلتم خزي الدنيا والآخرة, وإن كنتم ترون أنكم وافون له بما دعوتموه إليه على نهكة الأموال وقتل الأشراف فخذوه, فهو والله خير الدنيا والآخرة, قالوا: فإنا نأخذه على مصيبة الأموال وقتل الأشراف, فما لنا بذلك يا رسول الله إن نحن وفينا بذلك؟ قال: ((الجنة)), قالوا: ابسط يدك, فبسط يده فبايعوه".
قال جابر: فقمنا إليه رجلاً رجلاً فأخذ علينا البيعة يعطينا بذلك الجنة, أما المرأتان فكانت بيعتهما قولاً, ما صافح رسول الله امرأة أجنبية قط[4].
[1] رواه البخاري ح (3892).
[2] رواه أحمد ح (14047).
[3] رواه أحمد ح (1537) وابن إسحاق (2/442).
[4] رواه ابن إسحاق (2/446)