الخطبة الثانية
وحانت الصلاة, فأمر رسول الله بلالاً أن يصعد فيؤذن على الكعبة, وأبو سفيان وعتاب بن أسيد والحارث بن هشام جلوس بفناء الكعبة, فقال عتاب: لقد أكرم الله أسيدًا أن لا يكون سمع هذا, فيسمع منه ما يغيظه, فقال الحارث: أما والله لو أعلم أنه حق لاتبعته, فقال أبو سفيان بن حرب: أما والله لا أقول شيئًا, لو تكلمت لأخبرت عني هذه الحصباء, فخرج عليهم رسول الله فقال لهم: ((قد علمت الذي قلتم)), ثم ذكر لهم ذلك, فقال الحارث وعتاب: نشهد أنك رسول الله, والله ما اطلع على هذا أحد كان معنا, فنقول: أخبرك[1].
ولما كان الغد من يوم الفتح قام رسول الله في الناس خطيبًا, فحمد الله وأثنى عليه ومجده بما هو أهله, ثم قال: ((أيها الناس, إن الله حرم مكة يوم خلق السموات والأرض, فهي حرام بحرمة الله إلى يوم القيامة, فلا يحل لامرئ يؤمن بالله واليوم الآخر أن يسفك فيها دمًا أو يعضد بها شجرة, فإن أحد ترخص لقتال رسول الله فقولوا: إن الله أذن لرسوله ولم يأذن لكم, وإنما حلت لي ساعة من نهار, وقد عادت حرمتها اليوم كحرمتها بالأمس, فليبلغ الشاهد الغائب)) [2].
ولما تم الفتح قالت الأنصار فيما بينها: أترون رسول الله إذ فتح عليه أرضه وبلده أن يقيم بها, وهو يدعو على الصفا رافعًا يديه, فلما فرغ من دعائه قال: ماذا قلتم؟ قالوا: لا شيء يا رسول الله, فلم يزل بهم حتى أخبروه, فقال رسول الله : ((معاذ الله, المحيا محياكم, والممات مماتكم)) [3].
ثم أخذ رسول الله البيعة على الرجال بالسمع والطاعة فيما استطاعوا, ثم أخذ البيعة على النساء فقال: ((أبايعكن على أن لا تشركن بالله شيئًا, ولا تسرقن)) فقالت هند بنت عتبة: إن أبا سفيان رجل شحيح فإن أنا أصبت من ماله هنات, فقال أبو سفيان: وما أصبت فهو لك حلال, فضحك رسول الله وعرفها, فقال: ((وإنك لهند)) قالت: نعم, فاعف عما سلف يا نبي الله عفا الله عنك.
فقال: ((ولا يزنين)) فقالت: أوَ تزني الحرة؟ فقال: ((ولا يقتلن أولادهن)) فقالت: ربيناهم صغارًا, وقتلتموهم كبارًا, فأنتم وهم أعلم, فقال: ((ولا يأتين ببهتان)) فقالت: والله إن البهتان لأمر قبيح, وما تأمرنا إلا بالرشد ومكارم الأخلاق, فقال: ((ولا يعصينك في معروف)) فقالت: والله ما جلسنا مجلسنا هذا وفي أنفسنا أن نعصيك, ولما رجعت جعلت تكسر صنمها, وتقول: (كنا منك في غرور) [4].
ثم أقام عليه السلام بمكة تسعة عشر يومًا يجدد معالم الإسلام, ويرشد الناس إلى الهدى والتقى, وبث سراياه للدعوة إلى الإسلام, ولكسر الأوثان التي حول الكعبة, فكسرت كلها, ونادى مناديه بمكة: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يدع في بيته صنمًا إلا كسره.
[1] رواه ابن إسحاق في سيرته (4/413).
[2] رواه ابن إسحاق في سيرته (4/415 ـ 416)، وبعضه في البخاري ح (112).
[3] رواه ابن إسحاق في سيرته (4/416) والخبر رواه مسلم ح (1780).
[4] رواه الطبري في تاريخه (2/161).