تاريخ الرواية:
الرواية عند الأمم السابقة:
الرواية ليست من خصائص الأمة الإسلامية، فقد وجدت في الأمم الغابرة والأجيال الماضية كالفرس واليونان والرومان والهنود وغيرهم. فقد كانوا يعتمدون عليها في نقل وحفظ ما يتعلق بأنساب آلهتهم وعظمائهم وسير أبطالهم ومشاهيرهم, ووقائعهم وملاحمهم المشهورة, وأشعار شعرائهم, وقصص قصاصهم إلى غير ذلك مما يحتاجون إليه في ربط الحاضر بالماضي.
وقد نبغ في اليونان والرومان مؤرخون أمثال "هيرودوت" و"توسيديد" كتبوا التاريخ ونظموه بالقدر الذي يسمح به عصرهم كما نبغ فيهم شعراء, وقد بقي لنا من آثارهم في شعر الملاحم والقصص: الإلياذة والأوديسة1 للشاعر هوميروس2 بيد أن هذه الأمم لم تبلغ في الرواية والنقل عن أسلافهم ما بلغت الأمة العربية لأنها كانت أمما أقرب إلى الحضارة منها إلى البداوة, كما كانوا أهل علم بالقراءة والكتابة أكثر من العرب, ولأنهم لم يكن لهم من الخصائص النفسية والبواعث المعنوية مثل ما لأمة العرب.
الرواية عند العرب:
وفي مقدمة الأمم التي عنيت بالرواية الأمة العربية, فقد كانت الرواية فاشية فيهم, لأنهم كانوا أمة أمية لا تقرأ ولا تكتب وإن وجد
__________
1 فجر الإسلام ص166.
2 أحد شعراء اليونان وأدبائهم.
فيهم من يعرف القراءة، ويجيد الكتابة فهم قلة جدا ... وكان ديدنهم التكاثر، والتنافر، والتفاخر, بالأحساب والأنساب والتنابذ بالمعايب والألقاب.
كما كانوا يحافظون أشد المحافظة على صفاء أنسابهم وصيانتها من الهجنة والاختلاط, فمن ثم عنوا بحفظ أنسابهم وما كان لآبائهم وأسلافهم من أمجاد ومفاخر, وما كان لأعدائهم من مثالب ونقائص. وما كان بينهم وبين غيرهم من حروب ووقائع. فكان من الضروري لهم أن يعلموا ما يؤدي به هذه الأغراض.
ولما كانوا ليسوا ممن يخط بالقلم لم يكن لديهم من الكتب والصحف ما يقيدون فيه هذه المفاخر أو المثالب أو الوقائع وما فيها من البطولات كان لا بد لهم من الاعتماد على الحفظ والذاكرة. فمن ثم نشأت عندهم ملكة الأخذ عن الغير, وتحمل بعضهم عن بعض حتى كان الواحد منهم كأنه سجل يدون فيه التاريخ. وكان الواحد منهم يعظم في قومه بمقدار ما يحفظ من الأنساب والأحساب, وطبعي أنهم لم يكونوا في هذا سواء, بل كانوا متفاوتين في الحفظ والضبط على قدر تفاوتهم في الاستعداد والأحوال والملابسات, فمنهم ما يتعلق ببعض القبائل, ومنهم من كان يقتصر على حفظ ما يتعلق بنسب قبيلته ومفاخرها.
وأيضا فقد كان الشعر يعتبر سجل العرب وديوانهم, وكان الشاعر يعتبر لسان القبيلة المتغني بفضائلها, والذائد عن عرضها, فكان يقوم مقام وسائل الإعلان والدعاية في عصرنا هذا من نشر وصحافة وإذاعة. ولذلك ما كانوا يسرون بشيء أعظم من سرورهم بشاعر ينبغ في القبيلة قال ابن رشيق في العمدة: "وكانوا -أي العرب- لا يهنئون إلا
بغلام يولد، أو شاعر ينبغ، أو فرس تنتج1.
وما كان الشعر بمدون في كتب أو صحف. وإنما كان الاعتماد فيه على الرواية, يرويه الخلف عن السلف, ويروونه لمن بعدهم2 ومن هذا العرض الموجز يتبين لنا أن الرواية عند العرب في الجاهلية كان عليها جل اعتمادهم في حفظ أشعارهم وأنسابهم ومفاخرهم وأيام حروبهم, وأنهم ضربوا فيها بسهم راجح فاقوا فيه من عداهم. وقد شاء الله لهم هذا حتى يكون من الأسباب الحاملة للأمة العربية على أن تحفظ كتاب ربها وسنة نبيها وتبليغهما للناس كافة لما تشرفت بجمل خاتمة الرسالات إلى الناس كافة وأشرفها وأحقها بالخلود.
الوَسيط في عُلوم ومُصْطلح الحَديث
محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة (المتوفى: 1403هـ)