"عناية المسلمين بنقد الأسانيد والرواة":
وقد عُنِيَ العلماء المسلمون ولا سيما علماء الحديث والفقه والأصول بعلم الإسناد ونقد الرواة عناية فائقة إذ به يعرف التمييز بين الصحيح والحسن والضعيف من المرويات والمقبول من المردود منها, وذلك لما رأوا الله ورسوله يحضان على التثبت في المرويات وأنه لا يقبل إلا خبر العدل الضابط, ففي الكتاب الكريم يقول الله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ} 1 وقال أيضا جل ثناؤه: {وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجَالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ} 2 وقال عز شأنه: {وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ} 3 فقد دل ما ذكرنا من الآي أن خبر الفاسق ساقط غير مقبول، وأن شهادة غير
__________
1 الحجرات آية 6.
2 البقرة آية 283.
3 الطلاق آية 3.
العدل مردودة، والخبر وإن فارق معناه الشهادة في بعض الوجوه. فقد يجتمعان في أعظم معانيها إذ كان خبر الفاسق غير مقبول عند أهل العلم, كما أن شهادته مردودة عند جميعهم, ودلت السنة على نفي رواية المنكر من الأخبار كنحو دلالة القرآن على نفي خبر الفاسق, وهو الأثر المشهور عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "من حدث عني بحديث يرى 1 أنه كذب فهو أحد الكاذبين" 2.
وروي في الصحيحين عن غير واحد من الصحابة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "إن كذبا عليّ ليس ككذب على أحد, فمن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" 3, وفي صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعا: "كفى بالمرء كذبا أن يحدث بكل ما سمع".
وكذلك ورد عن النبي -صلى الله عليه وسلم- وعن الصحابة والتابعين ومن جاء بعدهم النهي عن الرواية عن الكذابين والضعفاء والمجروحين والمجهولين, والتحري في الرواية, ففي صحيح مسلم عن النبي -صلى الله عليه وسلم- أنه قال: "يكون في آخر الزمان دجالون4 كذابون يأتونكم من الأحاديث بما لم تسمعوا أنتم ولا آباؤكم, فإياكم وإياهم لا يضلونكم". وروى بسنده عن مجاهد قال: "جاء بشير العدوي إلى ابن عباس فجعل يحدث ويقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- فجعل ابن عباس لا يأذن لحديثه5 ولا ينظر إليه فقال: يابن عباس ما لي لا أراك تسمع لحديثي؟ أحدثك عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ولا
__________
1 روى يرى بضم الياء بمعنى يظن وبفتحها بمعنى يعلم. وروى الكاذبين بصيغة الجمع وبصيغة المثنى وقد دل الحديث على أنه إن علم كذب حديث أو غلب على ظنه ذلك حرم عليه روايته دون بيان وضعه.
2 مقدمة صحيح مسلم ج1 ص61، 62.
3 صحيح البخاري, كتاب العلم, باب إثم من كذب على النبي -صلى الله عليه وسلم، وصحيح مسلم ج1, باب تغليظ الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم.
4 جمع دجال وهو المموه الذي يحاول أن يلبس الباطل ثوب الحق.
5 لا يستمع ولا يصغي.
تسمع!! فقال ابن عباس: إنا كنا مرة1 إذا سمعنا رجلا يقول: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ابتدرته أبصارنا وأصغينا إليه بآذاننا, فلما ركب الناس الصعب والذلول لم نأخذ من الناس إلا ما نعرف", وفي رواية طاوس للقصة: "فلما ركب الناس الصعب2 والذلول تركنا الحديث عنه", وروى بسنده عن محمد بن سيرين قال: "إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم".
وعنه أيضًا قال: "لم يكونوا يسألون عن الإسناد, فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم, فينظر إلى أهل السنة فيؤخذ حديثهم, وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم".
وروى بسنده عن عبد الله بن المبارك قال: "الإسناد من الدين ولولا الإسناد لقال من شاء ما شاء" وروى عنه أيضًا أنه كان يقول: "بيننا وبين القوم القوائم3 يعني الإسناد وروى بسنده عن أبي إسحاق إبراهيم بن عيسى الطالقاني قال: قلت لعبد الله بن المبارك يا أبا عبد الرحمن الحديث الذي جاء: "إن من البر أن تصلي لأبويك مع صلاتك. وتصومي لهما مع صومك" قال: فقال عبد الله يا أبا إسحاق عمن هذا؟ قال: قلت له. هذا من حديث شهاب بن فراس. قال: ثقة عمن؟ قال: قلت عن الحجاج بن دينار. قال: ثقة عمن؟ قال: قلت: رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: يا أبا إسحاق إن بين الحجاج بن دينار وبين النبي -صلى الله عليه وسلم- مفاوز4 تنقطع فيها أعناق المطي ولكن ليس في الصدقة اختلاق" وذلك لأن الحجاج بن دينار هذا من تابعي التابعين, فأقل ما يمكن أن يكون بينه وبين
__________
1 حينا: وذلك قبل أن يظهر الكذب.
2 أصل الصعب والذلول في الإبل فالصعب: العسر المرغوب عنه: والذلول: الطيب السهل المحبوب فالمعنى سلك الناس كل مسلك مما يذم ويحمد.
3 بجعل الحديث كالحيوان، لا يقوم الحديث بغير إسناد كما لا يقوم الحيوان وينتفع به بغير قوائم.
4 مفاوز: جمع مفازة وهي الصحراء أي انقطاع كثير.
النبي -صلى الله عليه وسلم- اثنان: التابعي والصحابي فلذلك قال هذا. وهذا لون من ألوان النقد الأصيل النزيه.
وروى مسلم بسنده عن أبي الزناد عبد الله بن ذكوان فقيه أهل المدينة قال: أدركت بالمدينة مائة كلهم مأمون ما يؤخذ عنهم الحديث يقال: ليس من أهله1.
وقال سفيان الثوري: "الإسناد سلاح المؤمن" وقال الإمام الشافعي: "مثل الذي يطلب الحديث بلا إسناد كحاطب ليل", إلى غير ذلك من النصوص الدالة على العناية بالأسانيد, ونقد الرواة وتشريحهم تشريحا علميا دقيقا. ولولا هذا لوجد الزنادقة وأعداء الإسلام الفرصة سانحة للإفساد في الدين والاختلاق في الأحاديث من غير أن يجدوا من يكشف عن زيغهم وكذبهم ويرد عليهم كيدهم.
الإسناد الصحيح المتصل من خصائص الأمة الإسلامية:
فلا عجب وقد سمعت خصيصة الرواية في الإسلام أن يكون الإسناد الصحيح المتصل من خصائص الأمة الإسلامية, وإليكم كلام رجل عارف بالملل والنحل وتاريخ المذاهب الإسلامية, وهو الإمام أبو محمد علي بن حزم، قال في كتابه "الفصل في الملل والنحل" ما خلاصته: "نقل الثقة عن الثقة يبلغ به النبي -صلى الله عليه وسلم- مع الاتصال خص الله به المسلمين دون سائر الأمم وأما مع الإرسال والإعضال فيوجد في كثير من اليهود ولكنهم لا يقربون فيه من موسى قربنا من محمد -صلى الله عليه وسلم, بل يقفون بحيث يكون بينهم وبين موسى أزيد من ثلاثين عصرا في أزيد من ألف وخمسمائة عام, وإنما يبلغون بالنقل إلى شمعون ونحوه, وأما النصارى فليس عندهم من صفة هذا النقل إلا تحريم الطلاق وجده فقط على أن مخرجه من كذاب قد ثبت كذبه.
__________
1 صحيح مسلم بشرح النووي ج1 ص78، 88.
وأما النقل بالطريق المشتملة على كذاب أو مجهول فلا يمكن اليهود أن يصلوا إلى صاحب نبي أصلا, ولا إلى تابع له, ولا يمكن للنصارى أن يصلوا إلى أعلى من شمعون بولص, وقال أبو علي الجياني: "خص الله هذه الأمة بثلاثة أشياء لم يعطها من قبلها: الإسناد والأنساب والإعراب"1.
__________
1 التدريب ص183 الباعث الحثيث هامش 189-190.
الوَسيط في عُلوم ومُصْطلح الحَديث
محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة (المتوفى: 1403هـ)