الحديث الموضوع
تعريفه
"الحديث الموضوع":
الموضوع لغة: اسم مفعول مأخوذ من وضع الشيء يضعه وضعا، إذا حطه وأسقطه, أو مأخوذ من الضعة وهي الانحطاط في الرتبة، أو من وضعت المرأة ولدها إذا ولدته ففي القاموس: "مادة "وضع" وضعه يضعه -بفتح ضادها- وضعا، وموضعا وتفتح ضاده، وموضوعا: حطه، وعنه: حط من قدره ... وفلان نفسه وضعا، ووضوعا، وضعة، وضعة قبيحة أذلها، وعنقه: ضربها، والجنابة عنه: أسقطها والمرأة حملها وضعا، وتضعا بضمهما -أي التاء والضاد- وتفتح الأولى: ولدته والأحاديث الموضوعة: المختلفة، وفي حسبه ضعة -وبكسر: انحطاط، ولؤم وخسة".
ومن ثم نرى أن الوضع يأتي بمعنى السقوط، وبمعنى الانحطاط والخسة، وبمعنى الولادة.
وفي اصطلاح المحدثين: هو الحديث المختلق1 المكذوب على النبي -صلى الله عليه وسلم- أو على من بعده من الصحابة أو التابعين.
فالمناسبة بين المعنى اللغوي والاصطلاحي ظاهرة؛ لأن الموضوع فيه معنى السقوط وفيه انحطاط في رتبته عن غيره، وفيه معنى التوليد وإيجاد ما لم يكن موجودا وإذا أطلق الموضوع ينصرف إلى المفترى
__________
1 هو عند التحقيق ليس بحديث، لكن لما كانت صورته صورة الحديث من ذكر السند والمتن سموه كذلك, أو هو باعتبار زعم واضعه.
المكذوب على النبي -صلى الله عليه وسلم، وأما الموضوع على غيره فيقيد، فيقال مثلا: هذا موضوع على ابن عباس -رضي الله عنهما- أو على مجاهد، وقد وضعت آثار على ابن عباس، وعلي -رضي الله عنهما- وعلى غيرهما من التابعين, والغالب في الموضوع أن يكون متعمدا، وقد يقع غلطا، وقد مثلوا بما رواه ابن ماجه عن إسماعيل الطلحي عن ثابت بن موسى العابد الزاهد، عن شريك، الأعمش، عن أبي سفيان، عن جابر قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "وسكت ليكتب المستملي"، فلما نظر إلى ثابت قال: "من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار", وقصد بذلك الثناء على ثابت لزهده، وورعه، فظن ثابت أنه متن ذلك الإسناد فكان يحدث به، وقال ابن حبان: وإنما هو قول شريك قاله عقب حديث الأعمش عن أبي سفيان عن جابر مرفوعا: "يعقد الشيطان على قافية رأس أحدكم ... " الحديث فأدرجه ثابت في الخبر، ثم سرقه منه جماعة من الضعفاء، وحدثوا به عن شريك، وهذا القسم ذكره ابن الصلاح في نوع "الموضوع" واعتبره شبه وضع لعدم التعمد فيه، وتبعه على ذلك النووي، وذكره في "المدرج" الحافظ ابن حجر، وهو به أشبه.
الألفاظ الدالة على الوضع: من ذلك قولهم: هذا حديث موضوع، أو كذب، أو باطل، أو لا أعرفه إذا صرح بذلك أحد الأئمة الكبار، وكذا قولهم: هذا الحديث لا أصل له، أي ليس له إسناد يعرف, أما قولهم: لا يثبت أو لا يصح فليسا نصا في ذلك؛ لأنه لا يلزم من عدم الصحة أو عدم الثبوت الوضع, ولقد أكثر ابن الجوزي في "موضوعاته" من استعمالها مريدا الوضع، والموصلي1 كذلك, وهو اصطلاح لهما.
__________
1 هو الشيخ عمر بن بدر الموصلي أبو حفص الحنفي المتوفى سنة ثلاث وعشرين وستمائة, أكثر فيه من قولهم: لم يصح في هذا الباب شيء وعليه في كثير مما ذكر انتقاد وإن كان له في كل باب من أبوابه سلف خصوصا المتقدمين. "الرسالة المستطرفة ص114".
أما الألفاظ الدالة على الوضع كناية فمثل قولهم: هذا الحديث من بلايا فلان، أو سنده مظلم أو عليه ظلمات وهذه العبارات تكثر في "الميزان" للذهبي، و"لسان الميزان" لابن حجر، وأما قولهم: هذا مطروح, فمنهم من ألحقه بالموضوع، ومنهم من جعله دون الموضوع، ومنهم من جعله كالمتروك.
حكم رواية الموضوع:
لا يحل رواية الموضوع في أي باب من الأبواب إلا مقترنا ببيان وضعه سواء في ذلك ما يتعلق بالحلال والحرام أو الفضائل أو الترغيب والترهيب والقصص والتواريخ ونحوها, ومن رواه من غير بيان فقد باء بالإثم المبين، ودخل في عداد الكذابين والأصل في ذلك ما رواه الإمام مسلم في مقدمة صحيحه أن رسول الله قال: "من حدث عني بحديث يرى أنه كذب فهو أحد الكاذبين" 1.
وقد حكم كثير من علماء الحديث على من روى الموضوع من غير تنبيه إلى وضعه، وتحذير الناس منه، بالتعزيز، والتأديب، قال أبو العباس السراج: شهدت محمد بن إسماعيل البخاري، ودفع إليه كتاب من ابن كرام، يسأله عن أحاديث منها: حديث الزهري عن سالم عن أبيه2 مرفوعا: "الإيمان لا يزيد ولا ينقص", فكتب محمد بن إسماعيل على ظهر كتابه: من حدث بهذا استوجب الضرب الشديد والحبس الطويل، بل بالغ بعضهم فأحل دمه، قال يحيى بن معين لما ذكر له حديث سويد الأنباري: "من عشق وعف وكتم ثم مات, مات شهيدا" قال: هو حلال الدم.
__________
1 يروى بضم الياء وفتحها والكاذبين بصيغة المثنى أو الجمع فعلى فتح الباء يكون بمعنى يعلم، وعلى ضمها يكون بمعنى يظن فدل على أن من علم أو ظن أنه موضوع لا تحل له روايته، والمراد برواية "الكاذبين" بالتثنية عن وضعه ومن أذاعه, والمراد برواية "الكاذبين" بالجمع أي صار في عدادهم.
2 هو الصحابي الجليل عبد الله بن عمر رضي الله عنهما.
وقد سئل ابن حجر الهيثمي عن خطيب يرقى المنبر كل جمعة، ويروي أحاديث، ولم يبين مخرجيها ودرجتها، فقال: ما ذكره من الأحاديث في خطبه من غير أن يبين رواتها، أو من ذكرها فجائز بشرط أن يكون من أهل المعرفة بالحديث، أو ينقلها من مؤلف صاحبه كذلك، وأما الاعتماد في رواية الأحاديث على مجرد رؤيتها في كتاب ليس مؤلفه من أهل الحديث، أو في خطب ليس مؤلفها كذلك فلا يحل، ومن فعل عزر عليه التعزير الشديد، وهذا حال أكثر الخطباء، فإنهم بمجرد رؤيتهم خطبة فيها أحاديث حفظوها، وخطبوا بها من غير أن يعرفوا أن لتلك الأحاديث أصلا أم لا فيجب على حكام كل بلد أن يزجروا خطباءها عن ذلك.
أقول: لا يزال بعض الخطباء الذين ليس لهم علم بالحديث: رواية ودراية على هذا ولا سيما الذين لا يزالون يخطبون من الدواوين، والذين يهمهم استرضاء الجماهير فيذكرون لهم أحاديث في الترغيب، والترهيب، أغلب الظن أنها من وضع القصاص الذين كان همهم تملق الجماهير، واستمالتهم بذكر المبالغات والتهاويل والعجائب، والإسلام منها بريء، وما أحق هذه الفئة بأن يحال بينها وبين الخطابة والوعظ والتذكير وفي الأحاديث الصحاح، والحسان، غنية لمن يريد أن يرفق القلوب ويستولي على النفوس فليتق الله هؤلاء.
ومن الحق في هذا المقام أن أقول: إن الكثيرين من الوعاظ والمرشدين والأئمة والخطباء، لهم من علمهم، ووعيهم الديني والثقافي ما يعصمهم من الوقوع في رواية الموضوعات، والقصص الباطلة، والإسرائيليات الزائفة، وتحري الصدق في رواية الأحاديث، وذكر الأقاصيص، وهو أثر من آثار النهضة العلمية التخصصية في الدراسات العليا في الأزهر الشريف، ولا سيما "تخصص التفسير والحديث" و"تخصص الدعوة والوعظ، والإرشاد" مما يزيد عن نصف قرن.
"حرمة الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم":
لقد حرمت الشريعة الإسلامية الكذب وجعلته من أقبح الصفات وفي الكتاب الكريم والسنة المحمدية الأدلة المتكاثرة على ذلك.
ولئن حرمت الشريعة الكذب بعامة فقد غلظت حرمة الكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بخاصة لما فيه من الجناية على الدين بتشريع ما لم يأذن به الله، ولم يصدر عن رسوله قال تعالى: {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ} 1, وقال: {وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ} 2, وما الافتراء على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إلا افتراء على الله، قال تعالى: {وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى، إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى} 3, وقال رسول الله -صلى الله عليه وسلم: "إن كذبا عليّ ليس ككذب على أحد فمن كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار" , رواه البخاري ومسلم وغيرهما. وقد روي من طرق متكاثرة حتى قال العلماء إنه متواتر كما ذكرنا سابقا وفي معنى الكذب على النبي الكذب على الصحابة والتابعين ولا سيما فيما لا مجال للرأي فيه؛ لأن له حكم المرفوع إلى النبي وكثير من الفقهاء يعتبر قولهم حجة في التشريع.
ولا يدخل في الكذب الرواية بالمعنى لأنها إنما أجيزت لعالم بالألفاظ عارف بمقاصدها خبير بما يغير المعاني فهي لم تخرج عن مدلول اللفظ الأصلي.
حكم الكذب على رسول الله:
جمهور العلماء على أن الكذب على رسول الله من الكبائر، ولا يكفر
__________
1 سورة الأنعام آية 144.
2 سورة الزمر آية 60.
3 النجم 3، 4.
فاعل ذلك إلا إذا كان مستحلا للكذب عليه. وقال الإمام أبو محمد الجويني -والد إمام الحرمين- من أئمة الشافعية: يكفر من تعمد الكذب على رسول الله نقل ذلك عنه ابنه إمام الحرمين, وقال: إنه لم يره لأحد من الأصحاب, وإنه هفوة من والده, ووافق الجويني على هذه المقالة الإمام ناصر الدين ابن المنير من أئمة المالكية، وغيره من الحنابلة ووافقهم الإمام الذهبي في تعمد الكذب في الحلال والحرام, ولعل مما يشهد لهم قوله تعالى: {إِنَّمَا يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ} 1 فقد نفت الآية الإيمان عمن يفتري الكذب على الله والكذب على الرسول كذب على الله أقول: لعل مراد هؤلاء من استحل ذلك، أو أنهم قالوه على سبيل المبالغة في الزجر والتنفير منه؛ لأن الأدلة المتكاثرة من القرآن والسنة على أن فاعل الكبيرة لا يكفر.
هل تقبل رواية من كذب في الحديث وإن تاب؟
ولما للكذب على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- من إفساد في الشريعة وإبطال في الدين ذهب جمهور المحدثين إلى أن من كذب في حديث واحد فسق، وردت روايته، وبطل الاحتجاج بها, وإن تاب وحسن توبته ومن هؤلاء أحمد بن حنبل وأبو بكر الحميدي والصيرفي والسمعاني2, وخالف في ذلك النووي فقال: والمختار القطع بصحة توبته في هذا وقبول روايته بعدها إذا صحت توبته بشروطها3, ومذهب الجمهور أحوط للحديث وأبعد من الريبة في الرواية.
__________
1 النحل: 105.
2 علوم الحديث لابن الصلاح 128.
3 شرح النووي على صحيح مسلم ج1 ص70.
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
الوَسيط في عُلوم ومُصْطلح الحَديث
محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة (المتوفى: 1403هـ)