تابــــــــــــــــع الحديث الموضوع
أمارات الوضع:
للوضع أمارات وقرائن تدل عليه، بعضها تكون ظاهرة واضحة وبعضها لا يدركها إلا من تمرس في علم الحديث واكتسبه ملكة في النقد يميز بها بين ما يصح أن يصدر عن الرسول, وما لا يصح، منها:
1- اعتراف واضعه بوضعه: صراحة أو حكما أما الأول فمثل ما روي عن نوح بن أبي مريم من اعترافه بوضع حديث فضائل السور.
أما الثاني فمثاله أن يحدث بحديث عن شيخ ويسأل الراوي عن مولده فيذكر تاريخا يعلم قطعا وفاة ذلك الشيخ قبله, ولا يعرف ذلك الحديث إلا عنده, أو أن يدعي سماع شيخ في بلد, ويعلم قطعا أنه لم يدخله ومدار معرفة ذلك على التاريخ فمن ثم كان لتاريخ الرجال مكانة ممتازة في فن الحديث إذ به يعرف تاريخ مواليد الرواة ووفياتهم، وأوقات طلبهم وارتحالهم، ولما ادعى مأمون بن أحمد الهروي أنه سمع من هشام بن عمار سأله الحافظ ابن حبان: متى دخلت الشام؟ قال: سنة خمسين ومائتين قال: فإن هشاما الذي تروي عنه مات سنة خمس وأربعين ومائتين ومما ينبغي أن يعلم أن الحكم بالوضع يسبب الإقرار ليس قطعيا لجواز أن يكذب في هذا الإقرار نفسه، ومهما يكن فإقراره بسبب شكا راجحا وظنا قويا بعدم ثبوت روايته فيتوقف في قبولها حتى تتبين حقيقة أمرها.
2- ركاكة اللفظ: بحيث يعلم العارف باللسان العربي الفصيح أن هذا لا يصدر من فصيح فضلا عن أفصح الفصحاء، وأبلغ البلغاء سيدنا رسول الله -صلى الله عليه وسلم- ومحل ذلك -كما قال الحافظ ابن حجر- إن وقع التصريح بأنه من لفظ النبي، وربما تجتمع ركة اللفظ والمعنى فيكون أدل على المراد.
ومما لا يستنكر أن كل صاحب فن أدرى به من غيره والماهر في صنعته يعرف من عيوبها ما يخفى على غيره فالمحدثون لكثرة مزاولتهم للحديث وتذوقهم له تحصل لهم ملكة قوية يعرفون بها ما يجوز أن يكون من ألفاظ النبي وما لا يجوز، ورحم الله الربيع بن خثيم1 حيث يقول: "إن للحديث ضوءا كضوء النهار يعرفه، وظلمة كظلمة الليل تنكره" وقال أبو الفرج ابن الجوزي: "الحديث المنكر يقشعر له جلد الطالب للعلم وينفر منه قلبه غالبا" ولذلك كثيرا ما تجد أقوال العلماء: "هذا ما ينكره القلب", أو: "لا تطمئن إليه النفس", أو: "عليه ظلمات، أو متنه مظلم" إلى نحو ذلك.
وذلك مثل ما روي: "أربع لا يشبعن من أربع: أنثى من ذكر، وأرض من مطر، وعين من نظر, وأذن من خبر", وهو كلام على إطلاقه باطل مع التأمل ومثل: "إن لله ملكا من حجارة، يقال له عمارة، ينزل على حمار من حجارة كل يوم يسعر", وهو ركيك لفظا ومعنى وما أشبهه
__________
1 بضم الخاء وفتح الثاء المثلثة وسكون الياء آخره ميم ابن عائذ بن عبد الله الثوري أبو يزيد الكوفي ثقة عابد مخضرم وتابعي جليل مات سنة إحدى وقيل: ثلاث وستين.
بسجع الكهان الذي نفر منه الرسول.
3- ركاكة المعنى: وإن لم يكن اللفظ ركيكا كأن يكون مخالفا للعقل ضرورة أو استدلالا، ولا يمكن تأويله كالأخبار عن الجمع بين الضدين، أو النقيضين، أو نفي الصانع للكون وهو الله أو حدوثه، أو قدم العالم؛ لأنه لا يجوز ورود الشرع على خلاف مقتضى العقل، قال الإمام ابن الجوزي: "ما أحسن قول القائل: كل حديث رأيته تخالفه العقول وتباينه النقول وتناقضه الأصول فاعلم أنه موضوع", وذلك كأحاديث التشبيه والتجسيم ونحوه مثل ما روي زورا أن رسول الله قال: "ليلة أسري بي إلى السماء رأيت ربي بيني وبينه حجاب من نار ورأيت كل شيء منه، حتى رأيت تاجا مخوصا من اللؤلؤ", ومثل: "رأيت ربي بعرفات على جمل أحمر", ومثل ما روي: "أن سفينة نوح طافت بالبيت سبعا وصلت عند المقام ركعتين"، وهذا من تفاهات عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، وقد عرف بمثل هذه الغرائب، قال الإمام الشافعي ذكر رجل لمالك -يعني الإمام- حديثا منقطعا فقال: "اذهب إلى عبد الرحمن بن زيد بن أسلم يحدثك عن أبيه عن نوح"1, ومن ركاكة المعنى كون الكلام يدعو إلى الإباحية، أي استباحة الدماء، والأعراض والأموال، وحقوق الإنسان أو يجيء على خلاف مقتضى الحكمة المتفق عليها بين ذوي العقول.
4- من القرائن اشتمال الحديث على المجازفات والمبالغات التي لا تصدر من عاقل حكيم، والتي تقلل من قيمة الأعمال العظيمة وتغري الناس على المعاصي وذلك بالإفراط بالوعيد الشديد على الأمر الصغير أو الوعد العظيم على الفعل اليسير وأكثر ما يوجد ذلك في حديث القصاص والمتصوفة، وذلك مثل ما روي كذبا: "من قال لا إله إلا الله
__________
1 تهذيب التهذيب ج6 ص179.
خلق الله تعالى طائرا له سبعون ألف لسان لكل لسان سبعون ألف لغة يستغفرون له", ومثل: "من صلى الضحى كذا كذا ركعة أعطي ثواب سبعين نبيا", ونحو ذلك.
5- المخالفة للحس والمشاهدة: حيث لا يقبل التأويل القريب المقبول وذلك مثل: "الباذنجان شفاء من كل الداء" فالحس والتجارب العلمية تكذب ذلك, ومثل: "عليكم بالعدس فإنه مبارك يرقق القلب ويكثر الدمعة وقدس فيه سبعون نبيا", والظاهر أن واضعه عداس يريد ترويج سلعته، ومثل: "لا يولد بعد المائة مولود لله فيه حاجة" وهو مخالف للمشاهدة والواقع, وأغلب أئمة العلم والدين ولدوا بعد هذا التاريخ، ومثل ما روي كذبا: "إذا عطس الرجل عند الحديث فهو صدق", وإنا لنشاهد العطاس والكذب يعمل عمله.
6- مخالفة الحديث لصريح القرآن أو السنة المتواترة، أو الصحيحة المسلمة أو الإجماع، حيث لا يقبل التأويل القريب المقبول.
ومن أمثلة المخالف للقرآن حديث: "ولد الزنا لا يدخل الجنة إلى سبعة أبناء", فإنه معارض لقوله تعالى: {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى} 1.
ومثال ما هو مخالف للسنة المتواترة ما روي -كذبا- عن النبي: "إذا حدثتم بحديث يوافق الحق فخذوا به حدثت به أو لم أحدث", وهو مناقض لقول النبي: "من كذب عليّ متعمدا فليتبوأ مقعده من النار".
ومثال ما هو مخالف للسنة الثابتة المشهورة الأحاديث التي وضعت في مدح العزوبة فهي مخالفة لما ثبت عنه -صلى الله عليه وسلم- قولا وفعلا، فقد تزوج،
__________
1 الأنعام: 164.
ورغب في الزواج وجعله من سنته.
ومثال المخالف للإجماع حديث: "من قضى صلوات من الفرائض في آخر جمعة من رمضان كان ذلك جابرا لكل صلاة فاتته في عصره إلى سبعين سنة", فإن هذا وما شاكله باطل كذب لمخالفته للإجماع على أن شيئا من العبادات لا يسقط فائتة سنة فضلا عن سبعين سنة ولا تغتر بما يوجد من هذا وأمثاله في بعض كتب الفقه أو كتب الأوراد, وكن منه على حذر شديد.
7- من الأمارات الدالة على الوضع أن يكون الحديث مخالفا لسنن الله الكونية وذلك مثل حديث "عوج بن عوق" فإن فيه من طوله ثلاثة آلاف ذراع وأن الطوفان لم يصل إلى كعبه ومثل ما ورد في صفة الجبارين العماليق من وصف أجسادهم وقوتهم وأن أحدهم جاء ليجني ثمار بستانه فوجد النقباء الاثني عشر فأخذهم في كمه، ومن ذلك المعمرون الذين ادعوا الصحبة في القرن الثالث وما بعده فكل ذلك خلاف سنن الله في الفطرة.
8- ومن القرائن أن يكون الحديث مشتملا على سماجات وسفاسف يصان عنها الفضلاء فضلا عن سيد الأنبياء وذلك مثل ما روي -زورا- عن النبي -صلى الله عليه وسلم: "الديك الأبيض حبيبي وحبيب حبيبي جبريل" , ومثل: "اتخذوا الحمام المقاصيص فإنها تلهي الجن عن صبيانكم", ومثل: "الهريسة تشد الظهر".
9- ومنها أن يكون الحديث في فضائل عليّ والراوي رافضي1 أو في الإرجاء والراوي مرجئ2 أو في القدر والراوي قدري3, ولذلك
__________
1 هم فرقة من غلاة الشيعة يرفضون إمامة الشيخين ويكفرونهما وغيرهما من الصحابة.
2 المرجئة: هم الذين يرجئون أي يؤخرون العمل عن الإيمان ويقولون: لا يضر مع الإيمان معصية كما لا ينفع مع الكفر طاعة.
3 القدرية: هم الذين يقولون بأن العبد يخلق أفعال نفسه الاختيارية.
أمثله كثيرة منها حديث علي -رضي الله عنه: "عبدت الله مع رسول الله قبل أن يعبده أحد من هذه الأمة خمس سنين أو سبع", وفي رواته "حبة" واه في الحديث غال في التشيع وبهذا أعله العلماء وحكموا بوضعه.
"آثار الوضع السيئة":
1- من آثار الوضع السيئة في الحديث أن ترعرعت في ظله فرق سياسية ومذهبية ما كان لها أن تقوم على قدميها لو لم يكن لها هذا السند من الأحاديث، فالشيعة لولا ما وضعوه لما كان لمذهبهم هذا الانتشار والبقاء، وكذا المرجئة، والقدرية، والخوارج، وأضرابهم, لولا ما وضع في تأييدهم لما لقيت مذاهبهم قبولا من الناس ولا سيما العامة الذين لا معرفة لهم بالأحاديث ونقدها.
ولا ننسى ما كان لقيام هذه المذاهب من أكبر الأثر في تفريق وحدة المسلمين وتمزيق شملهم ومعاداة بعضهم لبعض حتى ذهبت ريحهم, وأضعفتهم أمام عدوهم، ولا يزال آثار ذلك باقية إلى اليوم, وعلى ما بذل من التقريب بين المذاهب والآراء في القديم والحديث, فقد عز توحيد الصفوف، وتعذر التوفيق وبقي الانقسام.
2- قد فتحت هذه الموضوعات لأعداء الدين من القساوسة والمتعصبين من المستشرقين منفذا ينفذون منه إلى الطعن في الإسلام وفي رسوله، وجل اعتمادهم على الروايات الباطلة والإسرائيليات الزائفة التي ذكرها المفسرون والمؤرخون ومن على شاكلتهم ممن
ليسوا من أهل الحديث الذين يميزون بين غثه وسمينه، وقد أمكنهم بمثل هذه الأباطيل أن يجعلوا حجابا بين الإسلام وبين من يريد أن يعتنقه من الغربيين، كما أمكنهم أن يدخلوا حظيرتهم بعض الذين لم يتسلحوا بمعرفة حقيقة الدين وحقيقة هذه الروايات الدخيلة على الإسلام فساروا على نهجهم في الاستخفاف بالدين والغض من شأن الأحاديث النبوية، وردت هذه الفرى باسم العلم حينا وحرية البحث حينا آخر، وقد قام بعض علماء الأزهر الشريف وغيرهم بجهاد مشكور في هذا الباب إلا أنه جهاد مهما بلغ فهو جهد المقل وكنا نود من القائمين على شئون الأزهر العتيد أن تكون لهم خطوات إيجابية في هذا بنشر الكتب والرسائل القيمة في هذا الباب.
وإرسال رجال من المتضلعين في الدين، والعارفين برد هذه الطعون إلى بلاد الغرب وتأليف جماعة من شأنها العمل على دحض هذه الأباطيل والكشف عن زيفها، بشتى الطرق والوسائل.
3- من الآثار السيئة الضرر بالعقيدة كأحاديث التجسيم والتشبيه, فقد ضل بسببها قوم حتى زعموا أن الله جسم من الأجسام، وكحديث: "لو أحسن أحدكم ظنه بحجر لنفع", فقد تعلق به بعض الجهال الأغبياء فنفضوا قلوبهم من الثقة بالله، وانصرفوا إلى بعض الجمادات والمخلوقات يرجون النفع أو دفع الضر فوقعوا في الضلال المبين.
4- من الآثار السيئة تكثير البدع وتنفيق سوقها فكثير من البدع تجد منشأها من الأحاديث الموضوعة، وذلك مثل بدعة الخرقة عند الصوفية على الهيئة المتعارفة عندهم فقد اعتمدوا فيها على
أحاديث أنكرها أهل العلم قاطبة، وكذا بدعة التواجد والرقص عند السماع, وكذا بدعة صلاة الرغائب، وصلاة نصف شعبان بطريقة غير مشروعة وصلوات الأيام والليالي وصيام أيام مخصوصة من رجب كلها أساسها الأحاديث المكذوبة, وكذا بدعة النوح والبكاء يوم عاشوراء وبدعة الفرح والسرور فيه، فقد وضع محبو الحسين -رضي الله عنه- أحاديث الحزن، ووضع أعداؤهم أحاديث الفرح1, وقد بلغ من المبتدعة أن زادوا في حديث: "كل بدعة ضلالة ... ": "إلا بدعة في عبادة", وقد كذبوا فكل بدعة أيا كان نوعها ضلالة.
5- من الآثار السيئة التهاون بالأعمال الصالحة والتكاسل عنها, وعدم التحرج من ارتكاب الآثام, وذلك كالأحاديث التي ترتب الثواب الكثير جدا على العمل القليل، وكالأحاديث التي تغري الفساق والمجان مثل: "سفهاء مكة حشو الجنة", ومثل: "الكريم حبيب الله وإن كان فاسقا والفاسق السخي أحب إلى الله من عابد بخيل", وهما كذبان قطعا ومناقضان للقرآن والسنة المستفيضة.
6- من المفاسد تعطيل الناس عن العمل النافع بإيهامهم أن العمل في وقت كذا أو السفر في يوم كذا مضر أو شؤم ونحو ذلك مثل ما روي كذبا: "من أحب كريمتيه أو حبيبتيه فلا يكتبن بعد العصر", فقد يغتر به بعض من لا يعرف فيفوت على نفسه خيرا كثيرا بعدم الكتابة بعده, ومثل ما روي كذبا: "يوم الأربعاء يوم نحس مستمر", فقد يتشاءم باعتقاده بعض الناس فيعرضون عن أسفارهم وقضاء حاجاتهم فيه، فيفوتهم الخير الديني أو الدنيوي.
7- من أسوأ الآثار أن كثيرين ممن ليسوا من أهل الحديث والمتفرغين
__________
1 منهاج السنة ج2 ص248.
له لم ينتبهوا إلى بعض الموضوعات واغتروا بها وأوردوها في كتبهم ورسائلهم واحتجاجاتهم ومناظراتهم, وما من علم إلا ونجد في كتبه موضوعات وإسرائيليات منها ما هو بالغ الخطورة على الإسلام ورسوله، ففي بعض كتب الفقه موضوعات، وفي كتب الوعظ والتصوف والأخلاق، بل وفي بعض كتب النحو والصرف واللغة والأدب ولا سيما "المعالم"1 التي عرضت لكثير من الفنون كصبح الأعشى، ونهاية الأرب، وفي بعض كتب الحديث موضوعات إلا أنها -والحق يقال- قليلة جدا بالنسبة لغيرها من كتب العلوم الأخرى، وقد تلقى جمهور الناس، وعامتهم هذه الموضوعات وتقبلوها على أنها صحيحة، وأذاعوها، وقد ساعد على ذلك أن مؤلفي هذه الكتب علماء أجلاء في فنونهم وإن كانوا ليسوا من أهل العلم بالحديث، كما ساعد على انتشارها ضعف دراسة السنة والأحاديث، وعدم العناية بعلم الرجال والنقد بعد العصور الأولى عصور الحديث الذهبية.
وقد تنبيه علماؤنا الأوائل -أثابهم الله- إلى خطر ما في هذه الكتب فألغوا كتب التخاريج التي تميز الصحيح من الضعيف والحق من الباطل, ولو أن كتب التخاريج طبعت من هذه الكتب لكان من وراء ذلك الخير الكثير لقارئ هذه الكتب العلمية, ولكنها نشرت بدون هذه التخاريج فتسممت بها العقول والأفكار وليس أمامنا الآن إلا الجهاد العلمي في بيان هذه الموضوعات والتنبيه إليها, وهذا ما سأعالجه باختصار وإيجاز.
__________
1 المعالم: جمع معلمة وهي كلمة عربية تقوم مقام كلمة "موسوعات" الغير العربية.
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
الوَسيط في عُلوم ومُصْطلح الحَديث
محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة (المتوفى: 1403هـ)