تابـــــــــــــــــــع الحديث الموضوع
الموضوعات وكتب الفقه والأصول:
وكما اشتملت بعض كتب التفسير على الموضوعات اشتملت بعض كتبه الفقه على أحاديث ضعيفة ومنكرة، وموضوعة، ولما كان بعض الفقهاء ولا سيما المتأخرين منهم بضاعتهم في فن الحديث، ومعرفة صحيحه من سقيمه قليلة، فقد اغتروا ببعض الأحاديث التي لا يصح الاحتجاج بها وأوردوها في كتبهم أضف إلى ذلك أنك قلما تجد في كتب المتأخرين من الفقهاء حديثا مذكورا بسنده كاملا, وليتهم إذ حذفوا الأسانيد غزوا الأحاديث إلى مخرجيها مع بيان درجتها من الصحة أو الحسن أو الضعف، أما كتب المتقدمين والأئمة الكبار, فلا تكاد تجد فيها موضوعا كما وأنها تحرص على ذكر الأحاديث بأسانيدها أو على الأقل
عزوها وبيان درجتها من الصحة أو الضعف.
ومن قبل أدرك أئمة الحديث ما في كتب الفقه من صحيح وغيره, فألفوا كتب التخاريج1 منهم الحافظ الزيلعي الحنفي المتوفى 762هـ، فقد ألف كتاب "نصب الراية في تخريج أحاديث الهداية", وهي من كتب الحنفية, والحافظ ابن حجر ألف كتابا سماه "التلخيص الحبير، في تخريج أحاديث الرافعي الكبير", وهو من كتب الشافعية, ومثل ذلك فعل بعض الأئمة في تخريج كتب الأصول فجزاهم الله خيرا.
فمن ذلك حديث أخرجه الدارقطني عن سلمان قال: رآني رسول الله -صلى الله عليه وسلم- وقد سال من أنفي الدم فقال: "أحدث وضوءا" ففي سنده عمرو بن خالد الواسطي كان يضع الحديث2. وحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم "قاء ولم يتوضأ", قال الزيلعي: غريب جدا، وقال الحافظ ابن حجر: لم أجده. وحديث أن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال: "تعاد الصلاة من قدر الدرهم من الدم", قال البخاري: حديث باطل وذكره ابن الجوزي في الموضوعات3, ومما وقع في كتب الأصول حديث: "ما جاءكم عني حديث فاعرضوه على كتاب الله فإن وافق فخذوه وإن خالف فردوه", وهو موضوع وضعته الزنادقة، وحديث: "حكمي على الواحد حكمي على الجماعة", وهو بهذا اللفظ لا يعرف عند المحدثين وهو أقرب إلى قواعد الفقهاء4.
والخلاصة أنه لا ينبغي لباحث أو مستدل أن يعتمد على كتب الفقه
__________
1 التخريج: عزو الأحاديث إلى من ذكرها في كتابه من الأئمة وبيان درجتها من الصحة أو الحسن أو الضعف.
2 نصب الراية ج1 ص41.
3 المرجع السابق ص212.
4 وإنما الحديث المعروف هو قوله -صلى الله عليه وسلم- في مبايعة النساء: "إنما قولي لامرأة واحدة كقولي لمائة امرأة" رواه النسائي.
في الأحاديث إلا إذا عزاه إلى مخرجه أو بينت درجته من الصحة أو الحسن أو الضعف وقد ينفر من هذا بعض المقلدة ولكنه الحق الذي لا محيص عنه.
"الموضوع وكتب الوعظ، والتصوف، والأخلاق":
وكذلك كتب الوعظ والتصوف والأخلاق ذكرت فيها بعض الأحاديث الضعاف والموضوعة, ومن هذه "إحياء علوم الدين" للإمام الغزالي, و"قوت القلوب" لأبي طالب المكي، و"غنية الطالبين" للجيلاني ونحوها, وكتاب الإحياء من أجل كتب الوعظ والأخلاق والتربية لولا ما شابه من ذكر أحاديث ضعيفة وموضوعة, ومما ذكر في هذا الكتاب من الموضوعات ما ذكره في فضل العقل وشرفه وأقسامه, وقد حكم عليها النقاد بالوضع حتى قالوا: "لم يثبت في فضل العقل شيء", وليس معنى هذا أن الإسلام لا يكرم العقل ولا يقر بشرفه, ولكن لا يكون ذلك عن طريق الكذب على الرسول الله -صلى الله عليه وسلم- وذكر كثيرا من الموضوعات والضعاف في أبواب صلوات أيام الأسبوع ولياليه. قال الإمام العراقي: "ليس يصح في أيام الأسبوع ولياليه شيء", وفي الكتاب طامات وأحاديث باطلة كثيرة.
وقد أحسن الإمام العراقي صنعا حينما خرج أحاديث الإحياء وبين صحيحها من ضعيفها ولذلك أنصح كل من يقرأ الإحياء ألا يعتمد على ما يذكره من أحاديث، إلا بعد الاطلاع على تخريج العراقي, وإلا وقع في إثم الكذب وهو لا يشعر. وكتاب الغنية للجيلاني أشد خطرا من الإحياء، وكتاب "قوت القلوب" أقل الثلاثة موضوعا، وكتاب: "تنبيه الغافلين" للسمرقندي يجب الحذر مما فيه من موضوعات وإسرائيليات وكذا كتاب "بستان العارفين" له، ومما ينبغي الحذر منه كتاب "نزهة المجالس", فقد أفسد عقول العامة بما فيه من خرافات وأكاذيب، ولما ألف الصفوري هذا الكتاب عارضه برهان الدين الناجي محدث دمشق، وبين كثرة ما فيه من موضوع, وقد جمع منه رسالة وأرسلها إلى الإمام السيوطي بمصر فوافقه على كثير منها بالوضع والاختلاق.
ومن الكتب التي وقع فيها الموضوع كتاب "عوارف المعارف": للسهروردي المتوفى سنة 632هـ.
فقد ذكر في فضائل التواجد والرقص عند سماع الغناء ورمي الخرقة أحاديث مكذوبة قبح الله من وضعها، وله كتاب في "صفة التصوف" روى فيه مرويات باطلة، وقد أفتى الإمام النووي ببطلانها1.
ومن الكتب التي وقع فيها الموضوع كتاب "الحلية" لأبي نعيم, ومع أنه من الحفاظ فقد تساهل في ذكره أحاديث بأسانيدها من غير تنبيه على وضعها، ولعله ممن يرى أن ذكر السند يعفى من التبعة.
هذا وإني أرى لزاما عليّ في هذا المقام أن أسدي النصح -والدين النصيحة- لإخواننا الوعاظ والمرشدين والأئمة، والخطباء, والمؤلفين والمحاضرين أن لا يعتمدوا على هذه الكتب وأشباهها في الثقة بالأحاديث والاعتماد عليها فيما ذكرته، ومؤلفوها مع جلالتهم إلا أنهم ليسوا من أئمة الحديث، الناقدين له، العارفين بصحيحه ومعلوله، وفي كتب السنن المعتمدة متسع، كالكتب الستة والموطأ، و"مسند" الإمام أحمد، و"الترغيب والترهيب" للمنذري و"رياض الصالحين" للإمام النووي مع التحري والتخير من الكتب التي لم يلتزم مؤلفوها فيها الصحة، إنهم إن فعلوا ذلك فقد أرضوا الله ورسوله، ورفعوا منار الحق، وأزهقوا الباطل.
__________
1 نذكر الموضوعات للفتني ص198.
الموضوع وكتب العلوم الأخرى:
"كتب السير والمواليد والتاريخ":
ولا تخلو كتب العلوم الأخرى من موضوعات وإسرائيليات لا تمت إلى الإسلام، ولا تنبع منه وذلك ككتب السير والمناقب، وكتب التواريخ، وذلك كتاريخ "الأمم والملوك" للمسعودي، و"تاريخ الخلفاء" للسيوطي، فلا تفتر بكل ما يوجد فيها من أحاديث وقصص، وكذلك كتب السير والمواليد، قد دخلها التزيد والاختلاق، وقد سئل الإمام ابن حجر الهيثمي: هل تجوز قراءة سيرة "البكري"؟ فأجاب: لا تجوز قراءتها؛ لأن غالبها باطل وكذب.
وعلى هذا: فلا يصح الاعتماد على كتب السير والمواليد في الأحاديث إلا بعد التأكد من صحتها والبحث عنها.
"كتب علم الكلام والعقائد":
وكذلك كتب "علم الكلام والعقائد" لا يعتمد عليها في الأحاديث فيجب البحث عنها، ومعرفة درجتها من الصحة، أو الحسن، أو الضعف قبل الاستدلال بها.
"كتب النحو والقواعد":
وكذلك كتب النحو والقواعد كثيرا ما يذكرون كلمات على أنها أحاديث، ولا أصل لها ولا ثبوت، وذلك مثل ما يذكرونه في حروف الشرط, وهو قول عمر: "نعم العبد صهيب، لو لم يخف الله لم يعصه", قال البهاء السبكي في "عروس الأفراح": لم أر هذا الكلام في شيء من كتب الحديث لا مرفوعا ولا موقوفا لا عن النبي ولا عن عمر وكذا قال: الزين العراقي، ومثل ما ذكره ابن هشام في المغني: "أنا أفصح من
نطق بالضاد بيد أني من قريش، واسترضعت في بني سعد بن بكر" قال السيوطي نقلا عن الحافظ ابن كثير: إنه لا أصل له. والتعبير بالضاد عن اللغة العربية مستحدث.
"كتب الأدب واللغة":
وكذلك كتب الأدب واللغة تذكر الكثير من الأحاديث بلا سند ولا تخريج, فمن ذلك ما ذكره الجوهري في صحاحه من حديث: "إن القصيرة قد تطيل "أي تلد ولدا طويلا"", وهو ليس بحديث وقد عده صاحب القاموس من أوهامه، وما ذكره صاحب مختار الصحاح في مادة "عك", وهو حديث: "طوبى لمن رأى عكة", وهو لا أصل له عند المحدثين.
أما كتب الأدب القديمة فقد أسرفت في ذكر الأحاديث التي لا أصل لها, وذلك مثل قصة قس بن ساعدة الأيادي وسماع النبي له وهو يخطب على جمل أورق, وقد عدها ابن الجوزي في الموضوعات إذ في سندها محمد بن الحجاج اللخمي، كذاب خبيث أحاديثه موضوعة, والكلبي وهو كذاب وأبو صالح وهو واه1, وقد اغتر بهذه القصة ولم يتنبه لوضعها معظم المؤلفين في الأدب قديما وحديثا ولا تزال تدرس للطلاب في كلياتنا الجامعية ومعاهدنا العلمية.
أقول: وهذه القصة رويت أيضا من طرق أخرى، وبأسانيد لا يصل رجالها إلى درجة الكذب والوضع، وترتفع بالقصة عن درجة الوضع.
وقد أسرف صاحب "نهاية الأرب" في ذكر أحاديث موضوعة وقصصا إسرائيليا كثيرا مثل ما ذكره في فضل صخرة بيت المقدس, وقد قال الحفاظ الناقدون: "كل ما روي في صخرة بيت المقدس فهو موضوع مفترى ولم يصح في فضل بيت المقدس إلا ثلاثة أحاديث".
__________
1 اللآلئ المصنوعة في الأحاديث الموضوعة ج1 ص95.
ومثل ما ذكره في فضيلة الزهد وبغض الدنيا وما ذكره في قصص الأنبياء والأمم السابقة مما نقله عن الثعلبي، وفيه من المنكر والإسرائيليات شيء كثير.
وقصارى القول -بعد هذا المطاف في كتب العلوم أن المعول عليه في ثبوت الأحاديث والاحتجاج أو الاستشهاد بها هي كتب الأئمة الحذاق الناقدين العارفين بالجرح والتعديل وبخاصة كتب الذين التزموا تخريج الأحاديث الصحاح، والحسان، أما كتب العلوم الأخرى فلا يعول عليها في هذا، بل فيها أحاديث ضعيفة، وموضوعة، وإسرائيليات كثيرة يجب الحذر منها، وعدم روايتها إلا مقترنا ببيان حالها.
ومعذرة مرة أخرى إذا كنت أوجزت في هذا الفصل فقد أطلت القول في كتابي الذي نبهت إليه آنفا.
يتبـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــع
الوَسيط في عُلوم ومُصْطلح الحَديث
محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة (المتوفى: 1403هـ)