منتديات بهجة النفوس الاسلامية
هل تريد التفاعل مع هذه المساهمة؟ كل ما عليك هو إنشاء حساب جديد ببضع خطوات أو تسجيل الدخول للمتابعة.


منتدي اسلامي على مذهب اهل السنة والجماعه
 
الرئيسيةالبوابةأحدث الصورالتسجيلدخول

 

 درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)

اذهب الى الأسفل 
2 مشترك
كاتب الموضوعرسالة
shaban
الإدارة
الإدارة
shaban


عدد المساهمات : 17315
نقاط : 26579
تاريخ التسجيل : 20/11/2011
العمر : 45

درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Empty
مُساهمةموضوع: درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)    درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالثلاثاء 05 يونيو 2012, 2:01 pm

مآثر خلدها التاريخ



¶ عمل رجاء بن حيوة وزيرا لطائفة من خلفاء بني أمية ابتداءً من عبد الملك بن مروان، وانتهاءً بعمر بن عبد العزيز. لكن صلته بسليمان بن عبد الملك وعمر بن عبد العزيز فاقت صلته بمن سبقهما من الخلفاء..

وقد كان اتصاله بخلفاء بني أمية من عظيم رحمة الله بهم، وجزيل إكرامه لهم.

فلقد دعاهم إلى الخير، ودلهم على طرقه.. وثناهم عن الشر، وأوصد دونهم أبوابه.. وأراهم الحق، وزين لهم اتباعه.. وبصرَّهم بالباطل، وكرَّه إليهم إتيانه.. فنصح لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم.

وقد وقعت لرجاء قصة أنارت له طريقه في مخالطة الخلفاء، وحددت له مهمته معهم، رواها بنفسه، فقال: إني لواقف مع سليمان بن عبد الملك في جموع من الناس؛ إذ رأيت رجلا يتجه نحونا وسط الزحام.. وكان حسن الصورة جليل الهيئة، فما زال يشق الصفوف، وأنا ما أشك أنه يروم الخليفة.. حتى حاذاني، ووقف إلى جانبي ثم حياني وقال: يا رجاء! إنك قد ابتليت بهذا الرجل (وأشار إلى الخليفة)، وإن في القرب منه الخير الكثير أو الشر الكثير.. فاجعل قربك منه خيرا لك وله وللناس.. يا رجاء! من كانت له منزلة من السلطان؛ فرفع إليه حاجة امرئ ضعيف لا يستطيع رفعها؛ لقي الله عز وجل يوم يلقاه وقد ثبت الله قدميه على الصراط.

فكانت لرجاء مع خلفاء بني أمية مواقف صدق ما زال يكنها التاريخ في أزهى صفحاته، ويرويها الخلف عن السلف..

من ذلك أنه كان ذات يوم في مجلس عبد الملك بن مروان، فوُصف للخليفة رجل بسوء طويته على بني أمية. فقال عبد الملك: والله لئن أمكنني الله منه لأفعلن، ولأفعلن.. فلما أمكنه الله منه؛ همَّ بأن ينفذ وعيده؛ فقام إليه رجاء بن حيوة، وقال: يا أمير المؤمنين! إن الله قد قد صنع لك ما تحبه من القدرة؛ فاصنع لله ما يحبه من العفو؛ فسكنت نفس الخليفة، وعفا عن الرجل وأحسن إليه.

ومن أكبر مواقفه شأنا وأعظمها على الإسلام والمسلمين خطرا؛ موقفه من أمر ولاية العهد، وأثره في البيعة لعمر بن عبد العزيز.

فإنه لما كان سليمان بن عبد الملك في مرض الموت؛ وقد سأل رجاء أن يظل قريبا منه. فدخل عليه ذات مرة فوجده يكتب كتابا! فقال رجاء: ما تصنع يا أمير المؤمنين؟

فقال: أكتب كتابا أعهد به إلى ابني أيوب!

فقال رجاء: يا أمير المؤمنين.. إن مما يحفظ الخليفة في قبره، ويُبرِئ ذمته عند ربه؛ أن يستخلف على الناس الرجل الصالح. وإن ابنك أيوب غلام لم يبلغ الحُلُم بعد، ولم يتبين لك صلاحه من طلاحه.. فمزق سليمان الكتاب.

يقول رجاء: ومكث بعد ذلك يوما أو يومين، ثم دعاني وقال: ما رأيك في ولدي داود يا أبا المقدام؟

فقلت: هو غائب مع جيوش المسلمين في القسطنطينية.. وأنت لا تدري الآن أحي هو أم ميت؟

فقال: فمن ترى إذن يا رجاء؟ فقلت: الرأي لك يا أمير المؤمنين..

وكنت أريد أن أنظر فيمن يذكرهم لكي أستبعدهم واحدا واحدا؛ حتى أصل إلى عمر بن عبد العزيز.

فقال: كيف ترى عمر بن عبد العزيز؟

فقلت: ما علمتُه –والله- إلا فاضلا، كاملا، عاقلا، دَيِّنا..

فقال: صدقت.. إنه والله لكذلك.. ولكنني إن وليتُه وأغفلتُ أولاد عبد الملك لتكونن فتنة، ولا يتركونه يلي عليهم أبدا..

فقلت: أشرك واحدا منهم، واجعله بعده.

فقال: أصبتَ؛ فإن ذلك مما يُسَكِّنهم، ويجعلهم يرضونه..

ثم أخذ كتابا وكتب بيده:

بسم الله الرحمن الرحيم

هذا كتاب من عبد الله سليمان بن عبد الملك أمير المؤمنين لعمر بن عبد العزيز؛ إني ولَّيتُه الخلافة من بعدي، وجعلتها من بعده ليزيد بن عبد الملك.

فاستمعوا له وأطيعوا، واتقوا الله، ولا تختلفوا فيطمع الطامعون فيكم..

ثم ختم الكتاب، وناولني إياه.. ثم أرسل إلى "كعب بن حامز" صاحب الشرطة، وقال له: ادعُ آل بيتي فليجتمعوا.. وأعلِمهم أن الكتاب الذي في يد رجاء بن حيوة هو كتابي، ومُرهم بأن يبايعوا لمن فيه.

قال رجاء: فلما اجتمعوا قلت لهم: هذا كتاب أمير المؤمنين قد عهد فيه للخليفة من بعده، وقد أمرني أن آخذ منكم البيعة لمن ولاه، فقالوا: سمعا لأمير المؤمنين، وطاعة لخليفته من بعده.. وطلبوا أن أستأذن لهم على أمير المؤمنين للسلام عليه.

فلما دخلوا عليه قال لهم: إن هذا الكتاب الذي في يد رجاء بن حيوة هو كتابي، وفيه عهدي للخليفة من بعدي، فاسمعوا وأطيعوا لمن ولَّيتُ، وبايعوا لمن سميتُ في هذا الكتاب.

فطفقوا يبايعون رجلا رجلا..

ثم خرجت بالكتاب مختوما؛ لا يعلم أحد من الخلق ما فيه غيري وغير أمير المؤمنين.

فلما أسلم سليمان الروح أحكمتُ إغلاق الباب، وأجلستُ عنده حارسا أثق به، وأوصيته ألا يتزحزح عن مكانه حتى أعود، وألا يدخل على الخليفة أحدا كائنا من كان..

ثم أرسلتُ إلى "كعب بن حامز" صاحب الشرطة؛ فجمع أهل بيت أمير المؤمنين جميعا في مسجد "دابق".. فقلتُ: بايعوا لمن في كتاب أمير المؤمنين.

فقالوا: قد بايعنا مرة ونبايع أخرى؟!

فقلتُ: هذا أمر أمير المؤمنين.. بايعوا على ما أمر به، ولمن سمى في هذا الكتاب المختوم.. فبايَعوا رجًلا رجُلا..

فلما رأيتُ أني قد أحكمتُ الأمر؛ قلتُ: إن صاحبكم قد مات، وإنا لله وإنا إليه راجعون.. وقرأتُ عليهم الكتاب، فلما انتهيتُ إلى ذكر عمر بن عبد العزيز؛ نادى هشام ابن عبد الملك: لا نبايعه أبدا..!

فقلتُ: إذن –والله- أضرب عنقك.. قُم فبايِع.. فقام يجر رجليه..

فكانت بيعة جـدَّد الله فيها للإسلام شبابه، ورفع للدين مناره..

فطوبى لخليفة المسلمين سليمان بن عبد الملك؛ فقد أبرأ ذمته أمام الله بتوليته الرجل الصالح..

وهنيئا لوزير الصدق رجاء بن حيوة؛ فقد نصح لله ولرسوله ولأئمة المسلمين..

وجزى الله البطانة الصالحة الخير، ولقَّاها الأجر.. فبنور رأيها يهتدي الأخيار المحظوظون الموَفَّقون من ذوي السلطان..(1)

¶ لما نزل "عبد الله بن علي" عم السفاح العباسي "حَماة" بعد القضاء على الدولة الأموية؛ بعث إلى الأوزاعي؛ فأشخص إليه. فنزل على "ثور بن يزيد الحمصي". قال الأوزاعي: فلم يزل "ثور" يتكلم في القدَر من بعد العشاء الآخرة إلى أن طلع الفجر؛ والأوزاعي ساكت، ما أجابه بحرف! فلما انفجر الفجر قام فتوضأ للصبح، ثم صلى وركب، فأتى حماة، فدخل الآذِن، فأذن للأوزاعي. قال: فدخلت على عبد الله وهو على سريره، وفي يده خيزرانة ينكت بها الأرض، وحوله جنوده وحشمه بالسيوف، والسيف والنطع بين يديه، فسلمت: فنكت في الأرض ثم رفع رأسه إليّ، وقال: يا أوزاعي! ما ترى فيما صنعنا من إزالة أيدي أولئك الظلمة عن العباد والبلاد، أجهادا ورباطا هو؟ فقلت: جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "من كانت هجرته إلى الله ورسوله فهجرته إلى الله ورسوله، ومن كانت هجرته لامرأة يتزوجها أو دنيا يصيبها فهجرته إلى ما هاجر إليه". قال: فنكت بالخيزرانة نكتا هو أشد من النكت الأول، وجعل مَن حوله يعضون لي أيديهم..!

ثم رفع رأسه فقال: يا أوزاعي! ما تقول في دماء بني أمية؟ قلت: جاءت الآثار عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه لا يحل دم امرئٍ مسلم إلا بإحدى ثلاث: الزاني بعد إحصان، والمرتد عن الإسلام، والنفس بالنفس، فنكت بالخيزرانة نكتا هو أشد من ذلك وأطرق.

ثم رفع رأسه، فقال: يا أوزاعي! ما تقول في أموال بني أمية؟ فقلت: إن كانت لهم حراما فهي عليك حرام، وإن كانت لهم حلالاً فما أحلها الله لك إلا بحقها. قال: فنكت بالخيزرانة نكتا هو أشد من ذلك، وأطرق مليا..

ثم رفع رأسه، فقال: يا أوزاعي! هممت أن أوليك القضاء.. فقلت: إن أسلافك لم يكونوا يشقون عليَّ في ذلك، فإن رأى الأمير أن يستتم ما ابتدأه آباؤه فليفعل. قال: كأنك تريد الإذن؟ قلت: إن ورائي حرما لهم حاجة إلى قيامي بهم وستري لهم. قال: فذاك لك.

قال: فخرجت فركبت دابتي، وانصرفت. قال: فلم أعلم حين وصولى إلى بيروت إلا وعثمان على البريد. فقال: إن الأمير غفل عن جائزتك، وقد بعث لك بمائتي دينار!

فلم يبرح الأوزاعي مكانه حتى فرقها في الأيتام والأرامل والفقراء، ثم وضع الرسائل في رد ما سمع من "ثور بن يزيد" في القدر.

وقد كان "عبد الله بن علي" ملكا جبارا، سفاكا للدماء، صعب المراس، ومع هذا فالإمام الأوزاعي يصدعه بمر الحق كما ترى؛ لا كخَلْق من علماء السوء؛ الذين يُحَسِّنون للأمراء ما يقتحمون به من الظلم والعسف، ويَقلِبون لهم الباطل حقًّا -قاتلهم الله!- أو يسكتون مع القدرة على بيان الحق. [مختصر تاريخ دمشق (بتصرف)- سير أعلام النبلاء]

¶ في سنة 639هـ تحالف الصالح إسماعيل مع الصليبيين ضد ابن أخيه نجم الدين أيوب وأعطاهم نظير ذلك مدينة صيدا الساحلية وقلعة الشقيف، وأباح لهم دخول دمشق وذلك لأول مرة منذ اشتعال الحملات الصليبية، وأباح لهم شراء السلاح والمؤن، وكان سلطان العلماء العز بن عبد السلام وقتها خطيب الجامع الأموي ومفتي الشافعية ورأس علماء دمشق، فصعد الشيخ العز على منبر الجامع يوم الجمعة، وألقى خطبة نارية من العيار الثقيل أفتى فيها بحرمة البيع والشراء مع الصليبيين، وشدد على التحريم وأنكر على الصالح إسماعيل فعلته، وفي آخر الخطبة ترك الدعاء للصالح إسماعيل كما هي العادة وقال بدلاً من ذلك قولته المشهورة التي صارت مثلاً سائرًا ودعاء متداولاً: "اللهم أبرم لهذه الأمة أمر رشد، يعز فيه أهل طاعتك، ويذل فيه أهل معصيتك، ويؤمر فيه بالمعروف، وينهى فيه عن المنكر".

كان قطع الدعاء في الخطبة للصالح إسماعيل بمثابة إعلان خلع وعزل من قبل العز بن عبد السلام، فاستشاط الصالح إسماعيل غضبًا وقامت قيامته، وعزل الشيخ العز عن الخطبة والإفتاء، وأمر باعتقاله، فأخذ الغضب يسري في أواسط الشعب الدمشقي الذي كره الصالح إسماعيل وجرائمه..

وبقي الشيخ مدة معتقلاً, ثم أُخرج من معتقله فأقام مدة في دمشق, ثم انتزح عنها إلى بيت المقدس, وجاء الصالح إسماعيل والملك المنصور صاحب حِمص وملوك الفرنج بعساكرهم وجيوشهم إلى بيت المقدس يقصدون الديار المصرية, فسيَّر الصالح إسماعيل بعض خواصه إلى الشيخ بمندليه, وقال له: تدفع منديلي إلى الشيخ وتتلطف به غاية التلطف وتستنزله, وإن خالفك فاعتقله في خيمة إلى جانب خيمتي, فلما اجتمع الرسول بالشيخ شرع في مسايسته وملاينته, ثم قال له: بينك وبين أن تعود إلى مناصبك وما كنت عليه وزيادة أن تنكسر للسلطان, وتقبل يده لا غير.

وهنا قال سلطان العلماء كلماته النيرة, فيها استعلاء أهل العلم, قال:

والله يا مسكين, ما أرضاه أن يقبل يدي, فضلاً أن أقبل يده. يا قوم!

أنتم في وادٍ, وأنا في وادٍ, الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاكم به.

فقال له: قد رسم لي إن لم توافق علي ما يُطلب منك وإلا اعتقلتك. فقال: افعلوا ما بدا لكم. فأخذه واعتقله في خيمة إلى جانب خيمة السلطان. وكان الشيخ يقرأ القرآن والسلطان يسمعه, فقال يوما لملوك الفرنج: تسمعون هذا الشيخ الذي يقرأ القرآن؟ قالوا: نعم! قال: هذا أكبر قسوس المسلمين, وقد حبسته لإنكاره عليّ تسليمي لكم حصون المسلمين, وعزلته عن الخطابة بدمشق وعن مناصبه, ثم أخرجته فجاء إلى القدس, وقد جددت حبسه واعتقاله لأجلكم. فقالت له ملوك الفرنج: لو كان هذا قسيسنا لغسلنا رجليه, وشربنا مرقتها..!

بعد أن أعيت الصالح إسماعيل السبل، وفشلت كل ضغوطه على الشيخ ابن عبدالسلام، قرر أن ينفيه عن بلاد الشام كلها، فخرج الشيخ العز بن عبد السلام ومعه أبو عمرو بن الحاجب شيخ المالكية؛ وكان مثله في العلم والصدع بالحق، وتوجه الإمامان إلى مصر.

وشيئًا فشيئًا ثقلت وطأة الشيخ العز على الأمراء والأعيان ورجال الدولة الذين لم يعجبهم وجود مثل ذلك الشيخ الذي أحيا شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بين الناس، ووصلت قوة الشيخ وجرأته في الحق لأن يقوم بإسقاط عدالة وشهادة نائب السلطان الأمير فخر الدين بن شيخ الشيوخ؛ بسبب قيامه ببناء طبلخانة -دار للطبول التي تدق أوقات الصلوات وخروج السلطان- على ظهر جامع بالقاهرة، وقد ظل الأمير فخر الدين ساقط الشهادة حتى مات، حتى أن الخليفة العباسي المستعصم ببغداد رفض رسالة جاءته من السلطان نجم الدين أيوب، بسبب أن مؤدي الرسالة هو الأمير فخر الدين، وبعد تلك الحادثة عزل الشيخ نفسه عن القضاء.

ثم وقعت حادثة أخرى، وهي الأشهر في تاريخ الشيخ والتي تدل على مدى عزته ومكانته وهي حادثة بيعه للأمراء المماليك، فقد ثبت عنده أن معظم هؤلاء الأمراء ما زالوا رقيقًا لا يصلح لهم أي تعامل من أي نوع، فاستشاط الأمراء غضبًا وأوغروا صدر السلطان على الشيخ العز، فاستدعاه وأغلظ له القول، فما كان من الشيخ العز إلا أن حمل متاعه على حمار وأركب عائلته على حمار آخر ومشى خلفهم خارجًا من القاهرة قاصدًا الشام.. فلما رآه أهل القاهرة خارجًا منها تسارع معظمهم خلفه رجالاً ونساءً، وخرج معه العلماء والصالحون والتجار، فبلغ الخبر السلطان وقيل له: متى خرج الشيخ العز ذهب ملكك، فركب السلطان بنفسه واسترضاه وطيب قلبه وترجاه من أجل العودة.

عاد الشيخ للقاهرة بشرط أن يتم بيع الأمراء الأرقاء، فوافق السلطان، فلما علم كبير الأمراء بذلك حاول استمالة الشيخ ليرجع عن رأيه، ولكن الشيخ صمم، فانزعج كبير الأمراء بشدة وقرر قتل الشيخ بنفسه، وذهب إلى دار الشيخ في جماعة من فرسانه وأحاطوا بالدار وسيوفهم مشهرة، فلما رآهم عبد اللطيف ابن الشيخ العز ارتعد فزعًا ودخل على أبيه يخبره، فما اكترث لذلك ولا تغير وقال كلمته الشهيرة: "يا ولدي! أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله"..

ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل عليهم، فحين وقع بصره على الأمير يبست يد النائب وسقط السيف منها وأرعدت مفاصله، وبكى وسأل الشيخ أن يدعو له، ووافق على أن يباع هو وزملاؤه الأمراء، وتم ما أراده الشيخ، ونادى على الأمراء واحدًا واحدًا، وغالى في ثمنهم وقبضه وصرفه في وجوه الخير.

ولما تولى سيف الدين قطز السلطنة والتتار على أبواب الشام ومصر، جمع قطز العلماء والفقهاء واستشارهم في جمع الأموال من الناس لتمويل الجيش ضد التتار فما تكلم أحد من الحاضرين مهابة من السلطان غير الشيخ العز الذي قال: لا يجوز ذلك إلا بعد أن ينفق السلطان والأمراء وقادة الجند ما في قصورهم من كنوز وأموال حتى يستووا مع سائر الناس في المأكل والملبس والسلاح، عندها يجوز للسلطان أن يأخذ من أموال الشعب للتمويل الحربي. [طبقات الشافعية – سلسلة ترويض المحن]

¶ ذكر الحافظ البزار أنه [لما ظهر السلطان "قازان" على دمشق المحروسة جاءه ملك "الكَرَج"(1) وبذل له أموالا كثيرة جزيلة؛ على أن يمكنه من الفتك بالمسلمين من أهل دمشق! ووصل الخبر إلى شيخ الإسلام ابن تيمية، فقام من فوره وشجع المسلمين ورغبهم في الشهادة، ووعدهم على قيامهم بالنصر والظفر والأمن وزوال الخوف.

وانتدب منهم رجالا من وجوههم وكبرائهم وذوي الأحلام منهم؛ فخرجوا معه إلى حضرة السلطان "قازان"، فلما رآهم السلطان قال: من هؤلاء؟ فقيل: هم رؤساء دمشق. فأذن لهم فحضروا بين يديه.

فتقدم شيخ الإسلام أولا؛ فلما أن رآه أوقع الله له في قلبه هيبة عظيمة حتى أدنـاه وأجلسه! وأخذ الشيخ في الكلام معه أولا في عكس رأيه عن تسليط المخذول ملك الكرج على المسلمين، وأخبره بحرمة دماء المسلمين، وذكَّره ووعظه؛ فأجابه إلى ذلك طائعا، وحُقنت بسببه دماء المسلمين، وحُميت ذراريهم، وصين حريمهم.

وحدثني مَن أثق به عن الشيخ وجيه الدين ابن المنجا، قال: كنت حاضرا مع شيخ الإسلام حينئذ، فجعل يحدث السلطان بقول الله ورسوله في العدل وغيره، ويرفع صوته على السلطان في أثناء حديثه؛ حتى جثا على ركبتيه، وجعل يقرب منه في أثناء حديثه؛ حتى لقد قرب أن تلاصق ركبته ركبة السلطان، والسلطان مع ذلك مقبل عليه بكليته، مُصغٍ لما يقول، شاخص إليه لا يُعرض عنه.. وأن السلطان من شدة ما أوقع الله في قلبه من المحبة والهيبة؛ سأل مَن يخصه مِن أهل حضرته: مَن هذا الشيخ؟! وقال ما معناه: إني لم أرَ مثله، ولا أثبت قلبا منه، ولا أوقع من حديثه في قلبي، ولا رأيتُني أعظم انقيادًا مني لأحد منه! فأُخبر بحاله وما هو عليه من العلم والعمل..

وقال شيخ الإسلام للترجمان: قل لقازان: أنت تزعم أنك مسلم ومعك قاضي وإمام وشيخ ومؤذنون على ما بلغنا فغزوتنا.. وأبوك وجدك كانا كافرين وما عملا الذي عملت.. عاهدا فوفيا، وأنت عاهدت فغدرت، وقلت فما وفيت وجُرت..!

وخرج من بين يديه مكرما معززا؛ قد صنع له الله بما طوى عليه نيته الصالحة من بذله نفسه في طلب حقن دماء المسلمين؛ فبلغه ما أراده، وكان ذلك أيضا سببا لتخليص غالب أسارى المسلمين من أيديهم، وردهم على أهلهم وحفظ حريمهم.] (1)

وفي سنة 700 هـ تواترت الأخبار بعزم التتار على الهجوم مرة أخرى على الشام وعم الذعر بين أهل دمشق وأخذوا في الرحيل وارتفعت الأسعار بشدة، وهرب معظم الأعيان والقضاة والعلماء من البلد إلى مصر خوفًا من التتار، فقام ابن تيمية وخطب الناس في الجامع الأموي بدمشق، وحرضهم على القتال والصبر والمرابطة، وأوجب عليهم قتال التتار، فسكن الناس قليلاً وربط جأشهم، ثم انتدب أمير دمشق الشيخ ابن تيمية سفيرًا إلى مصر ليستحث السلطان الناصر محمد على المجيء والدفاع عن البلد، وقد كلم ابن تيمية السلطان بمنتهى الشدة حتى إنه قال له: إن كنتم أعرضتم عن الشام وحمايته أقمنا له سلطانًا يحوطه ويحميه..

وفي ذلك تهديد شديد للسلطان بالعزل إذا لم يقم بواجباته تجاه الأمة، ثم قال له: لو قدر أنكم لستم حكام الشام ولا ملوكه، واستنصركم أهله وجب عليكم النصر، فكيف وأنتم حكامه وسلاطينه وهم رعاياكم وأنتم مسئولون عنهم.(1)

¶ وهذا الإمام محيي الدين النووي كان مواجها للملوك والجبابرة بالإنكار؛ لا تأخذه في الله لومة لائم، وكان إذا عجز عن المواجهة كتب الرسائل، و يتوصل إلى إبلاغها، ومما كتبه إلى السلطان الظاهر التركي رسالة؛ طالب فيها السلطان بالعدل في الرعية وإزالة المكس عنهم، وكتب معه في ذلك شيخ الإسلام أبو محمد عبد الرحمن ابن الشيخ أبى عمرو؛ شيخ الحنابلة، والشيخ العلامة قدوة الوقت أبو محمد عبد السلام الزواوي شيخ المالكية، والشيخ العلامة ذو العلوم أبو بكر بن محمد بن أحمد السويسي المالكي، والشيخ العارف القدوة أبو إسحاق إبراهيم، والشيخ المفتى أبو حامد محمد بن العلامة أبى الفضائل عبد الكريم بن الجرستاني خطيب دمشق وابن خطيبها. وجماعة آخرون..

فلما وصلت الرسالة إلى السلطان؛ رد جوابا عنيفا مؤلما؛ فتنكرت خواطر الجماعة الكاتبون وغيرهم. فكتب إليه الإمام النووي جوابا لذلك الجواب:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين. اللهم صل على محمد وعلى آل محمد وسلم.

من عبد الله يحيى النووي، يُنهى أن خدَمَة الشرع كانوا كتبوا ما بلغ السلطان -أعز الله أنصاره- فجاء الجواب بالإنكار والتوبيخ والتهديد، وفهمنا منه أن الجهاد ذُكر في الجواب على خلاف حكم الشرع، وقد أوجب الله إيضاح الأحكام عند الحاجة إليها فقال تعالى: (وإِذْ أخَذَ الله مِيثَاقَ الذِينَ أوتُواْ الكِتَابَ لتُبَيَّنُنَّهُ للناسِ وَلاَ تَكتمونه). فوجب علينا حينئذ بيانه وحرم علينا السكوت، قال الله تعالى: (لَيْس عَلى الضُّعَفَاء ِولا على المرضى وَلاَ عَلى الذينَ لا يَجَدُونَ ما يُنفقُونِ حَرَجٌ إذا نَصحِوا لله وَرَسوُلِهِ مَا عَلى المُحَسِنِينَ منْ سَبيلٍ واللهُ غَفُورٌ رحيمٌ).

وذكر في الجواب أن الجهاد ليس مختصا بالأجناد، وهذا أمر لم ندَّعِه ولكن الجهاد من فرض كفاية، فإذا قرر السلطان له أجنادا مخصوصين ولهم أخباز معلومه من بيت المال، كما هو الواقع تفرغ باقي الرعية لمصالحهم ومصالح السلطان والأجناد وغيرهم من الزراعة والصنائع وغيرها، الذي يحتاج الناس كلهم إليها، فجهاد الأجناد مقابَل بالأخباز المقررة لهم. ولا يحل أن يؤخذ من الرعية شيء مادام في بيت المال شيء من نقد أو متاع أو أرض، أو ضياع أو غير ذلك.

وهؤلاء علماء المسلمين في بلاد السلطان -أعز الله أنصاره- متفقون على هذا، وبيت المال معمور، زداه الله عمارة وسعة وخيرا وبركة في حياة السلطان، المقرونة بكمال السعادة له والتوفيق والتسديد والظهور على أعداء الدين، (وَمَا النَّصْرُ إلا مِن عند الله) إنما يُستعان في الجهاد وغيره بالافتقار إلى الله واتباع آثار النبي صلى الله عليه وسلم، وملازمة أحكام الشرع، وجميع ما كتبناه أولا وثانيا هو النصيحة التي نعتقدها، وندين الله بها، ونسأله الدوام عليها حتى نلقاه.

والسلطان يعلم أنها نصيحة له، وللرعية، وليس فيها ما يُلام عليه، ولم نكتب هذا للسلطان إلا لعلمنا بأنه يحب الشرع ومتابعة أخلاق النبي صلى الله عليه وسلم في الرفق بالرعية، والشفقة عليهم وإكرامهم.

وأما ما ذكر في الجواب من تهديد الرعية بسبب نصيحتنا؛ فليس هو المرجو من عدل السلطان وحلمه، وأي حيلة لضعفاء المسلمين؛ كيف يؤاخَذون بنصيحة العلماء للسلطان؟!

وأما أنا في نفسي فلا يضرني التهديد، ولا أكثر منه، ولا يمنعني ذلك من نصيحة السلطان. فإني أعتقد أن هذا واجب عَليَّ وعلى غيري، وما ترتب عليه الواجب فهو خير وزيادة عند الله تعالى: (إنماَ هذه الحَيَاةُ الدُنْيَا مَتَاعٌ، وإنَّ الآخرةَ هيَ دَارُ القَرَار) (وأفَوِّضَ أمْريِ إلى اللهِ بَصيِرٌ بِالعَبادِ).

وقد أمرنا رسـول الله صلى الله وسلم أن نقول بالحق حيثما كنا، وأن لا نخـاف في الله لوم لائم، ونحن نحب للسلطان معالي الأمور، وأكمـل الأحوال، وما ينفعه في آخرته ودنياه ويكون سببا لدوام الخيرات له، ويبقى ذكره له على الأيام، يخلد في سننه الحسنة ويجد نفعا (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُّحْضَراٍ).

وأما ما ذكر من تهيئة السلطان البلاد، وإدامته الجهاد، وفتح الحصون، وقهر الأعداء، فهذا بحمد الله من الأمور الشائعة التي اشترك في العلم بها الخاصة والعامة، وصارت في أقطار الأرض، وثواب ذلك مدخَر للسلطان إلى يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا، ولا حجة لنا عند الله إذا تركنا النصيحة الواجبة علينا..

والسلام عليكم ورحمة الله بركاته والحمد لله رب العالمين.

وبعد إجلاء التتار عن البلاد، زعم وكيل بيت المال للسلطان الظاهر بيبرس أن كثيرا من بساتين الشام من أملاك الدولة، فأمر الملك بالحوطة عليها، أي بحجزها وتكليف واضعي اليد على شيء منها إثبات ملكيته وإبراز وثائقه؛ فلجأ الناس إلى الإمام النووي لينصح السلطان بالعدول عن هذا الأمر؛ فواجه السلطان الظاهر، ولكن السلطان ظل على رأيه، فكتب إليه:

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، قال الله تعالى: (وَذكِّر إنِ الذَّكْرَي تَنْفَع المُؤْمِنِنَ)، وقال الله تعالى: (وَإذ اخَذَ الله ميثَاقَ الذيِنَ أوتُواً الكِتَابَ لتُبَيَّننهُ لِلناس وَلاَ تَكتُمونَهُ). وقال تعالى: (وَتَعاوَنُوا عَلى البرِّ والتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ على ا لإِثمً والعُدْوانِ).

وقد أوجب الله تعالى على المكلفين نصيحة السلطان -أعز الله أنصاره- ونصيحة عامة للمسلمين. ففي الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: "الدين النصيحة لله ولكتابه ورسوله وأئمة المسلمين وعامتهم". ومن نصيحة السلطان وفقه الله لطاعته، وتولاه بكرامته، أن ينهى إليه الأحكام إذا جرت على خلاف قواعد الإسلام، وأوجب الله تعالى الشفقة على الرعية، والاهتمام بالضعفة وإزالة التضرر عنهم، قال الله تعالى: (واَخْفِضْ جَنَاحَكَ للمُؤمِنِينَ).

وفى الحديث الصحيح قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إنما تنصرون وترزقون بضعفائكم"، وقال صلى الله عليه وسلم: "من كشف عن مسلم كربة من كرب الدنيا كشف الله عنه كربة من كرب يوم القيامة، والله في عون العبد ما كان العبد في عون أخيه". وقال صلى الله عليه وسلم: "اللهم من ولى من أمر أمتي شيئاً فرفق بهم فارفق به، ومن شق عليهم فاشقق عليه". وقال صلى الله عليه وسلم: "كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته". وقال صلى الله عليه وسلم: "إن المقسطين على منابر من نور عن يمين الرحمن، الذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا".

وقد أنعم الله تعالى علينا وعلى سائر المسلمين بالسلطان، وأعزه الله؛ وأذل له الأعداء من جميع الطوائف، وفتح عليه الفتوحات المشهورة في المدة اليسيرة، وأوقع الرعب في قلوب أعداء الدين وسائر الماردين، ومهد له البلاد والعباد، وقمع بسيفه أهل الزيغ والفساد، وأمره بالإعانة واللطف والسعادة، ولله الحمد على هذه النعم المتظاهرة، والخيرات المتكاثرة، ونسأل الله الكريم دوامها له وللمسلمين وزيادتها، في خير وعافية آمين.

وقد أوجب الله شكر نعمه، ووعد الزيادة للشاكرين، قال تعالى: (وَلئنْ شَكَرْتُم لأزيدكم). وقد لحق المسلمين بسبب هذه الحوطة على أملاكهم أنواع من الضر لا يمكن التعبير عنها، وطُلب منهم إثبات لا يلزمهم، فهذه الحوطة لا تحل عند أحد من علماء المسلمين؛ بل مَن في يده شيء فهو ملكه لا يحل الاعتراض عليه، ولا يُكلَّف بإثباته، وقد اشتُهر عن السلطان أنه يحب العمل بالشرع، ويوصي نوابه به، فهو أولى مَن عمل به والمسئول إطلاق الناس من هذه الحوطة، والإفراج عن جميعهم؛ فأطلِقهم أطلقك الله من كل مكروه، فهم ضعفة وفيهم الأيتام والأرامل والمساكين، والضعفة والصالحون، وبهم تُنصر، وتُغاث، وتُرزق، وهم سكان الشام المبارك، جيران الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، سكان ديارهم؛ فلهم حرمات من جهات، ولو رأى السلطان ما يلحق الناس من الشدائد لاشتد حزنه عليهم، وأطلقهم في الحال ولم يؤخرهم، ولكن لا تُنهى الأمور إليه على وجهها.

فيالَله.. أغِث المسلمين يُغثك الله، وارفق بهم يرفق الله بك، وعجِّل لهم الإفراج قبل وقوع الأمطار، وتلف غلاتهم؛ فإن أكثرهم ورثوا هذه الأملاك من أسلافهم ولا يمكنهم تحصيل كتب شراء وقد نهبت كتبهم، وإذا رفق السلطان بهم حصل له دعاء رسول الله صلى الله عليه وسلم لمن رفق بأمته، ونصره على أعدائه، فقد قال الله تعالى: (إنِ تَنصُرُوا اللهَ يَنْصرُكُم)، ويتوفر له من رعيته الدعوات، وتظهر في مملكته البركات، ويبارك الله في جميع ما يقصده من الخيرات.

وفى الحديث: "من سن سنة حسنة فله أجرها وأجر مَن عمل بها إلى يوم القيامة، ومن سنن سنة سيئة فعليه وزرها ووزر من عمل بها إلى يوم القيامة".

فنسأل الله الكريم أن يوفق السلطان للسنن الحسنة التي يُذكر بها يوم القيامة، ويحميه من السنن السيئة.

فهذه نصيحتنا الواجبة علينا للسلطان، ونرجو من فضل الله تعالى أن يلهمه الله فيها القبول، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

والحمد لله رب العالمين وصلاته وسلامه على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

فكان / هذا دأبه، وهذه سنته التي سار عليها مع السلطان، وكثيرا ما أراد السلطان أن يبطش به، ولكن الله تعالى سلَّم الإمام وحماه.(1)

وصدق من قال فيه:

كسـاكَ ربُّـكَ أوصـافًـا مُجمَّـلَـةً

زهدتَ في باطلِ الدنيا وزُخرُفِها

يَضيقُ عن حصرِها التفصيلُ والجُمَلُ

عـزمًـا وحـزمًـا فمضروبٌ بكَ المثَلُ

¶ وهذا الإمام العلامة الحافظ الأوحد، شيخ الأندلس والمغرب، وفريد عصره، القاضي عياض بن موسى بن عياض بن عمرو اليحصبي الأندلسي ثم السبتي المالكي، وُلد سنة 476هـ بمدينة سبتة المغربية (وهي ما زالت واقعة حتى الآن تحت الاحتلال الأسباني) وكان جده عمرو قد هاجر من الأندلس إلى المغرب أيام ملوك الطوائف، وسكن مدينة سبتة وبها وُلد القاضي عياض.

كانت مدينة "سَبتة" عندما وُلد القاضي عياض تحت حكم دولة المرابطين العظيمة، وهذه الدولة كانت من أعظم الدول الإسلامية التي ظهرت في بلاد المغرب عبر عصورها جميعًا، فلقد كانت دولة مجاهدة من الطراز الأول، حققت في هذا المضمار الكثير من الفتوحات والإنجازات الخالدة، وكان لها الفضل في نشر الإسلام في غرب ووسط القارة الإفريقية، وكان قادة وسلاطين وأمراء تلك الدولة يعظمون العلماء والفقهاء ويجلونهم، وما سقطت تلك الدولة العظيمة إلا عندما تسلل الترف والفساد إلى جنباتها.

تولى القاضي عياض منصب القضاء سنة 510 هـ في مدينة سبتة، وكان في الخامسة والثلاثين، وكانت أولى علامات الفساد بدأت في الظهور في جنبات الدولة المرابطية، وكانت تلك العلامة هي الوساطة والشفاعة لبعض الناس والمحسوبية لهم على حساب الآخرين فتصدى القاضي عياض لتلك الآفة، وسار في ولايته بمنتهى النزاهة والأمانة، وأبدى حزمًا في تطبيق الحدود والأحكام، واشتهر بين الناس بغزير علمه وحفظه، وصدق طريقته، ودقة فتياه، وحياديته الكاملة، حتى طارت شهرته في كل مكان.

تلك الشهرة جعلت أمير المسلمين -وهو لقب سلطان المرابطين "علي يوسف ابن تاشفين"- يوليه قضاء غرناطة بالأندلس، ليصلح من شأنها، نظرًا لانتشار المفاسد بين أهلها، وكثرة القلاقل والاضطرابات بها، فتولى القاضي عياض قضاء غرناطة في سنة 531 هـ، فقام به خير قيام، وأعرض عن الشفاعات والمؤثرات، وردع أرباب الولايات وأتباع السلطان عن الباطل، وعزل كل من ثبتت عدم أهليته وكفايته من منصبه، فشرد كثيرًا من حاشية أمير الأندلس "تاشفين بن عليّ" عن أعمالهم ومناصبهم، فاستاء منه الأمير "تاشفين بن عليّ" وضاق به ذرعًا، خاصة والقاضي عياض يرفض رفضًا تامًا أي تدخل في عمله وأي محسوبية أو وساطة، حتى لو كانت من الأمير نفسه، فسعى الأمير "تاشفين بن علي" عند أبيه أمير المسلمين "علي بن يوسف" حتى يصرف القاضي عياض عن منصبه، وبالفعل تم له مراده وعُزل القاضي عياض عن منصبه في رمضان سنة 532 هـ.

لم يفت هذا العزل في عضد القاضي عياض ولم ينل من مكانته ولا قدره، فعاد إلى مدينته سَبتة وعكف فيها على التدريس والفتيا ونشر العلم، وفي سنة 539 هـ طلب أمير المرابطين "تاشفين بن علي" أن يلي منصب القضاء في سبتة، وكانت أحوال دولة المرابطين قد تدهورت، واكتسحت جيوش الموحدين معظم ولاياتها في المغرب، فأراد "تاشفين بن علي" رجالاً صالحين في تلك المناصب الحساسة لوقف تدهور الدولة المرابطية.. ولله في خلقه شئون؛ فتاشفين بن علي هو الذي اجتهد أول مرة لعزل القاضي عياض عن منصبه، وهو نفسه الذي اجتهد لإعادته لنفس المنصب، وذلك عندما احتاج لعلمه وزهده ونزاهته..!

بلغ الكتاب أجله، وسقطت الدولة المرابطية المجاهدة، لما تخلت عن أسباب قوتها وبقائها، وأخلدت إلى الأرض والترف والشهوات، وحلت محلها دولة الموحدين، وتلك الدولة كانت على النقيض من دولة المرابطين، فمؤسسها دجال ادعى المهدية اسمه "محمد ابن تومرت"، وقد ابتدع لهم عقيدة خاصة بأتباعه أسماها "المرشدة"، هي عبارة عن خليط من آراء المعتزلة والأشاعرة والجهمية، وقرر لهم الكثير من البدع والخرافات، وقد سلك ذلك الرجل الدجال وأتباعه مسلك القسوة المفرطة والوحشية القصوى في التعامل مع المرابطين، وسفكوا دماء مئات الآلاف من المرابطين واستحيوا نساءهم، وأبادوا مدنًا بأكملها من على وجه الأرض، حتى أن الموحدين قد قتلوا قرابة المليون مسلم من أجل إقامة دولتهم.

عندما رأى القاضي عياض تلك القسوة والوحشية الدموية المفرطة في تعامل الموحدين مع خصومهم، خاف على أهل سبتة من أن يصيبهم مثل ما أصاب أهل مدينة "سلا" المغربية الذين ذبحهم الموحدون عن بكرة أبيهم عندما حاولوا مقاومتهم، ورأى أن من المصلحة أن يدخل هو وأهل سبتة في طاعة الموحدين، حتى تستقر الأمور ويرى بهدوء وروية ما يمكن عمله بعد ذلك، وبالفعل دخل القاضي عياض وأهل سبتة في طاعة الموحدين في سنة 540 هـ، وأقره الموحدون على منصب القضاء.

أخذ القاضي عياض في تسيير شئون "سبتة" حسب مقتضيات الشرع والعدل، وهو في نفس الأمر يفكر في كيفية التصرف مع هؤلاء الخوارج المبتدعين الضالين أتباع الدجال "ابن تومرت"، ثم وقعت مذبحة "مراكش" المهولة التي لم تعرف بلاد المغرب والإسلام قبلها من نظير، وذلك عندما قام الموحدون باقتحام مدينة "مراكش" عاصمة المرابطين وآخر حصونهم وذبحوا أهلها جميعًا وكانوا بمئات الألوف، واسترقوا النساء والأطفال، ثم قاموا بعد ذلك بهدم المدينة بالكلية بدعوى أنها مدينة نجسة وأهلها مشركون.(1)

أثرت هذه المذبحة البشعة في نفسية القاضي عياض بشدة، وأيقن أنه لا سبيل للتعامل مع هؤلاء الضلال المبتدعة، وأن مصير "سبتة" سيكون كمصير "مراكش" و"سلا" و"وهران" وغيرها من البلاد والمدن التي رفضت عقيدة "ابن تومرت" الضالة.

قرر القاضي عياض الاتصال بزعيم المرابطين "يحيى بن غانية" وكان الوحيد الذي بقي من كبار قادة المرابطين، وقد استطاع أن يسيطر على جزر الأندلس الشرقية "ميورقة" وأخواتها، فاتصل به القاضي عياض ونسق معه من أجل القدوم إلى مدينة "سبتة" وتسليمها إليه، على أن يعمل "يحيى بن غانية" على مجاهدة الموحدين وتحرير مدن المغرب من نيرهم وضلالهم، وبالفعل وافق "يحيى بن غانية" على ذلك، فأعلن أهل "سبتة" خلع طاعة الموحدين، وذلك سنة 543 هـ.

سارت الأمور على غير مراد القاضي عياض، إذ تخاذل "يحيى بن غانية" عن القدوم إلى "سبتة"، في حين أسرع الموحدون إلى حصار المدينة بجيوش كثيفة، فخاف القاضي عياض على أهل المدينة من القتل والسبي، فخرج إلى الموحدين بنفسه، وقرر لهم أنه المسئول عما جرى، فحملوه إلى أمير الموحدين "عبد المؤمن بن علي" وكان وقتها في "مراكش"، فعفا عنه عبد المؤمن وصفح عما جرى، ولكنه طلب منه أن يقر بعصمة "ابن تومرت" ومهديته، ويكتب بذلك كتابًا للآفاق كلها..!

أدرك القاضي عياض أن الموحدين قد طلبوا منه ذلك الكتاب ليكون حجة لهم ودليلاً على باطلهم، وصك شرعية من أكبر علماء المغرب والأندلس وقتها، وأدرك أن حياته على المحك، وأنه إذا رفض سيقتل ولابد، وعلم أنه لو أذعن وأعطاهم ما يطلبون لضلَّ كثير من الناس، واتبعوا الموحدين في ضلالهم وعقيدتهم المبتدعة، بل وأهدر بكتابه ذلك دماء مئات الألوف من الأبرياء الذين قتلوا ظلمًا وعدوانًا بسيوف الموحدين.

تراءت كل هذه المعطيات والنتائج في عقل القاضي عياض، فقرر التضحية بنفسه وإيثار مرضاة الله عز وجل وحده، وإيثار الحق والعلم الذي قضى عمره كله يدعو إليه ويقضي به وينشره بين الناس..

وأعلنها مدوية أمام الموحدين المبتدعين؛ أنه لا عصمة لابن تومرت، ولا مهدية له، وأنه دجال ضال في باب العقائد والأقوال والأفعال، وأن دماء الأبرياء في رقبته وهو مسئول عنها يوم القيامة.

وذلك في اليوم التاسع من جمادى الآخرة سنة 544 هـ، فقام الموحدون بقتله بالرماح حتى قطعوه إربًا، ثم قاموا بجمع أشلائه ودفنوها في مكان مجهول بمراكش بلا صلاة ولا غسل كأنه واحد من غير المسلمين، بل قاموا بعد ذلك بما هو أنكى، فأقطعوا تلك المنطقة للنصارى، فبنوا بجوار قبره كنيسة وبعض الدور.

ولأن الله عز وجل ينصر رسله والذين آمنوا في الحياة والآخرة، فقد عثر على قبر القاضي عياض سنة 712 هـ في عهد الدولة المرينية السنية، والتي أسقطت دولة الموحدين الخبيثة، وفرح الناس والعلماء بذلك الأمر بشدة، وأمر القاضي أبو إسحاق بن الصباغ بتسوية ما حول القبر وإشهاره وإظهاره.(1)

¶ وهذا الإمام العلامة، القدوة الزاهد، العالم العابد، فخر الأندلس، وشيخ المالكية أبو بكر محمد بن الوليد بن خلف بن سليمان بن أيوب الفهري الأندلسي الطرطوشي، فقيه الإسكندرية وعالمها، وناشر السنة، وقامع البدعة في مصر أيام الفاطميين الأشرار، وُلد في عام 451 هـ بمدينة طرطوشة الأندلسية.

انتقل الطرطوشي من الأندلس إلى المغرب إلى الحجاز إلى العراق إلى الشام إلى مصر، وذلك كله طلبًا للعلم والرواية، ونشرًا للعلم والتدريس، فلقد كانت قضية نشر العلم والسنة هي الشغل الشاغل لحياة الإمام الطرطوشي، فلما وصل إلى مصر، تاقت نفسه للإقامة في الإسكندرية، لموافقة طبيعتها لطبيعة مسقط رأس الإمام بالأندلس، فلما وصلها لم يكن في نيته المقام بها إلا قدر الحاجة، وحاجته كانت نشر العلم ونفع الناس، ولكنه لما وصل الإسكندرية وجدها قفرًا من العلم والعلماء، والمساجد خالية والمدارس مغلقة بسبب ملاحقة الفاطميين الزنادقة لعلماء أهل السنة وتشريدهم وقتلهم وإيذائهم، فقرر الطرطوشي استوطان الإسكندرية، ونشر العلم والسنة بها، وكان يقول في ذلك: إن سألني الله تعالى عن المقام بالإسكندرية، أقول له: وجدت قومًا ضلالاً فكنت سبب هدايتهم.

وبالفعل لم يلبث الطرطوشي في الإسكندرية إلا قليلاً حتى عرف واشتهر، وأقبل عليه طلبة العلم الذين وجدوا فيه ضالتهم، وكأنهم قد وقعوا على كنز، فازدحموا على دروسه، وكان قد تزوج من سيدة موسرة صالحة من نساء الإسكندرية، فأطلقت يده في أموالها ووهبته دارًا من أملاكها، فقرر أن يجعل تلك الدار مدرسة علمية على طراز المدارس النظامية التي رآها في بغداد أثناء رحلته، والتحق بتلك المدرسة الكثير من طلبة العلم، وكان ينفق على تلاميذه ويضيف الغرباء منهم فيها.

اصطنع الطرطوشي طريقة جديدة في التعليم هي أقرب ما تكون للتربية والتعليم بالنظم الحديثة حيث لم تقتصر علاقته مع طلبته وتلاميذه مع حلقة الدرس فقط، ثم ينفضوا من حوله، بل كان يصطحبهم ويخرج معهم في رحلات خلوية إلى البساتين والمتنزهات خارج المدينة، وهناك يقضون عدة أيام على غرار المعسكرات الكشفية، يلقي دروسه في الهواء الطلق على تلاميذه ويذاكرهم فيما حفظوه ودرسوه، وقد لاقت هذه الطريقة إعجاب تلاميذه فأقبلوا عليه، وكثر عددهم، حتى كان يخرج معه في رحلاته تلك أربعمائة طالب، وبذلك يكون الطرطوشي قد سبق الأوروبيين وغيرهم من أصحاب النظريات الحديثة في التربية.

كانت الدولة العبيدية الرافضية الخبيثة وقتها تحت سيطرة الوزير الأفضل شاهنشاه ابن أمير الجيوش بدر الجمالي، وكان طاغية جبارًا، غشومًا ظلومًا، في ظل حكمه الجائر احتـل الصليبيون بيت المقدس وسواحل الشام، فلما سمع الطرطوشي عن جبروته وقوته وسلطانه، قرر الذهاب إلى القاهرة لنصحه ووعظه كما

يليق بالعلماء المخلصين الربانيين، ويطلب منه الرفق بالرعية، وإشاعة العدل بينهم.

وصل الطرطوشي إلى قصر الوزير الطاغية، ودخل عليه مجلسه، فوجده زاخرًا بمتع الدنيا وزخارفها، وفيه من علامات الأبهة والتكبر ما لا يوصف، فدخل الطرطوشي على الطاغية في قصره، ثم شرع في وعظه ونصحه بعبارات تفيض بالترهيب والترغيب، بأسلوب بلاغي رائع، جعل الطاغية الجبار يهتز ويبكي، وكان يجلس بجوار الوزير أحد النصارى، فأنشد الطرطوشي:

يا ذا الذي طـاعتُـه قُـربـةٌ وحقُّـه مفتـرَضٌ واجبُ

إن الذي شرفتَ مِن أجلِـه يزعـمُ هـذا أنه كـاذبُ

وأشار إلى ذلك النصراني، فأقام الوزير النصراني من موضعه، وأخرجه من مجلسه.

عاد الطرطوشي إلى الإسكندرية، بعدما أدى النصح لولاة الأمور، وبرهن على واجبات العلماء الربانيين، وتفرغ بعدها للعلم والتعليم، وقد زادت شهرته بين الناس وازداد معه عدد الطلبة والتلاميذ، ولكن هذا الإقبال جر على الطرطوشي الوبال والمحن فقد ضاق به قاضي الإسكندرية "ابن حديد" ضيقًا شديدًا، خاصة وأن الطرطوشي قد أحدث نهضة علمية كبيرة بالبلد، واهتم الناس بالقرآن والسنة..

وكان للطرطوشي فتاوى كثيرة يعارض فيها النظم والقواعد التي يسير عليها ولاة الدولة، وكان دائم الانتقاد لسياسة بني حديد، وقد ألف رسالة مهمة في نقد أوضاع وعادات المجتمع وقتها سماها: "بدع الأمور ومحدثاتها"، ثم أفتى بحرمة الجبن الذي يستورد من الروم وكانت تجارته رائجة، وتدر دخلاً كبيرًا على خزانة بني حديد.

جمع القاضي الفاسد ابن حديد هذه الأنشطة كلها، ورفعها إلى الوزير الأفضل وشفعها ببيان خطورة الطرطوشي على البلد، وأنه يهدد السلام الاجتماعي بكثرة انتقاده لأوضاع ونظم الدولة، ولربما يؤدي لثورة الناس، وضعف الإيرادات بسبب فتاويه بالتحريم وغيرها..!!

ولم يكن الوزير الطاغية بحاجة لمزيد من الشحن والتحريض ضد الإمام الطرطوشي، فأرسل إلى ابن حديد يأمره بإرسال الطرطوشي إليه، فلما جاءه الرسول الذي سيحمله إلى القاهرة قال له: "يسر حوائجك فإنك تمشي يوم كذا".. فقال الطرطوشي: "وأي حوائج معي؟ ريش الكتابة، وطعامي في حوصلتي".. مما يدل على زهده ورقة حاله، واستعداده الدائم لتقبل النوازل والمحن.

وصل الطرطوشي إلى القاهرة، وهناك أمره الوزير الأفضل بالبقاء في الفسطاط وحدد إقامته في مسجد الرصد جنوبي الفسطاط (القاهرة القديمة)، وضيق عليه بشدة، ومنع الناس من الاتصال به والأخذ عنه، وجعل رزقه الشهري بضعة دنانير يأخذها من متحصل جزية اليهود، إمعانًا في التضييق عليه، وذلك سنة 514 هـ.

ظل الطرطوشي رهن الإقامة الجبرية في مسجد الرصد، شهورًا طويلة، لا يجرؤ أحد على زيارته أو الاجتماع معه، وقد تحول المسجد إلى معتقل كبير للإمام، حتى أن الناس قد هجروا الصلاة في المسجد؛ خوفًا من أن يتهموا بالاتصال بالشيخ، وتطاولت الأيام عليه وهو وحده في المسجد، وليس معه إلا خادمه، وكان أشد شيء على الإمام منعه من التدريس والتعليم والاجتماع مع تلاميذه وطلبته، وضاقت نفسه بشدة من هذه المحنة.

ولما طال الحبس والمنع، قرر الإمام الصالح أن يخرج من هذا السجن الطويل، وذلك بمساعدة رب السموات والأرض، فترك الأكل من الطعام الذي يأتيه من رزق الوزير الطاغية، وأمر خادمه بجمع المباح من الأرض، وتقوت به، وظل صائمًا قائمًا، يفطر على ما يأتيه من المباح من الأرض، وفي يوم من أيام شهر رمضان سنة 515 هـ، وتحديدًا يوم 28 رمضان، وساعة الغروب قال الطرطوشي لخادمه: "لقد رميته الساعة"..!

فلما كان من الغد ركب الوزير الطاغية في موكبه، فهجم عليه مجموعة من الفرسان فقتلوه، فعُدَّ ذلك الأمر كرامة هائلة للإمام الطرطوشي تدل على قدره ومكانته.

تولى الوزارة بعد الأفضل، المأمون البطائحي، وكان يجل الإمام، ويعرف المحنة التي وقعت له مع الأفضل، فأخرجه من الحبس وأكرمه، فطلب الطرطوشي من الوزير الجديد أن يأذن له بالعودة إلى الإسكندرية، فأذن له.

فلما عاد جعل شغله الشاغل في تأليف كتاب في فن السياسة والحكم وأصول العدل والرفق بالرعية، حتى يقدمه كدليل ومرشد للوزير الجديد حتى لا تأخذه أبهة السلطان فيسير على نهج سلفه المقتول، وهذا الكتاب

"سراج الملوك" هو أمتع كتبه وأجودها، نظمه قلم عالم سبكته المحن، وامتحنته البلايا والفتن، ولكنه خرج منها إمامًا كبيرًا، ومربيًا رائدًا، وعالمًا ربانيًا، يندر وجوده في أيامنا هذه.(1)

وهذا جزء من رسالة للإمام الطرطوشي يخاطب فيها الأمير "يوسف بن تاشفين": (1) [.. فاتقِ الله يا أبا يعقوب في أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنَّ لك مع الله تعالى موقفًا يسائلك فيه عنهم شخصًا شخصًا؛ ذكرًا وأنثى، صغيرًا وكبيرًا، حرًّا وعبدًا، مسلمًا وذِميًّا.. فأعد لذلك المقام كلامًا، ولذلك السؤال جوابًا..

واعلم يا أبا يعقوب أنه لا يزني فرج في ولايتك، ومدى سلطانك، وطول عمرك، إلا كنت المسئول عنه، والمرتهن بجريرته.. وكذلك لا يُشرَب فيها نقطة مُسكِر إلا وأنت المسئول عنها.. ولا يُنتَهك عرض امرئ مسلم إلا وأنت المطالَب به.. ولا يُتعامَل بالربا إلا وأنت المأخوذ به.. وكذلك سائر المظالم، وكل حرمة انتُهِكت مِن حرمات الله تعالى؛ فعُهدتها عليك، لأنك القادر على تغييرها..

فأما ما خفي من ذلك ولم يكن ظاهرًا يراه المسلمون فأنت المبرأ منه إن شاء الله تعالى، ألا ترى إلى عمر بن الخطاب كيف أشفق أن يطالبه الله ببعير من إبل الصدقة؟ وإنما هو البعير للمسلمين، فركب على بعيره، وجعل يطلبه بنفسه.. ولا عذر لك عند الله تعالى أن تقول: لم يبلغني..! فإنك إذا احتجبت عن المسلمين فكيف تعلمه وتراه؟! ولقد بلغني يا أبا يعقوب أنك احتجبت عن المسلمين بالحجارة والطين، واتخذت دونهم حجابًا، وأن طالب الحاجة ليظل يومه ببابك فما يلقاك..!

واعلم يا أبا يعقوب أن الله تعالى فرض الجهاد على كافة المسلمين، ولا يرده جور جائر ولا فسق فاسق إلى أن تقوم الساعة؛ فجهاد الكفار فرض عليك فيما يليك من ثغور؛ لأنك أقرب الملوك إليها، وعندك الكُراع والسلاح، ولأمة الحرب وآلتها، وجيوش المسلمين، وحُماة البيضة طائعون لك..

فاحذر يا أبا يعقوب أن ترد على جنة عرضها السماوات والأرض فلا يكون لك فيها موقف قدم..! أعاذنا الله وإياك من هذا الموقف.] ا.هـ

فيا عباد الله..

هؤلاء هم سلف الأمة، لسان حال كل واحد فيهم كما يقول الشاعر:

يُسـائـلُـني بنـو قـومي حيـارى: **** فتًى صـلـبُ العـقـيـــدةِ لا أرِقُّ

أنـا يـا قــومِ إنْ لم تعـرفـــوني *** فبيني والعُـــلا نَـسَـبٌ وعِــرقُ

سَـلُـوا الجــوزاءَ عني والثـريـــا *** يكادُ لفــرطِ هِـمَّـتِـهـا يُـشَــقُّ

لكم عانيـتُ مِن نَفْسي؛ ف
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
https://shmmmm.forumarabia.com
????
زائر




درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Empty
مُساهمةموضوع: رد: درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)    درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالثلاثاء 05 يونيو 2012, 4:25 pm

بااارك الله فيك شعبااان

وجزاك الله خيرااا

بوركت جهودك
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
زائر
زائر




درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Empty
مُساهمةموضوع: رد: درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)    درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالأربعاء 06 يونيو 2012, 2:24 am

~\\~ بااارك الله فيك شعبااان

وسدد الله خطاك وأنار بصيرتك ورفع قدرك ~\\~
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
اريج الجنة
شخصيات هامة
اريج الجنة


عدد المساهمات : 5330
نقاط : 7782
تاريخ التسجيل : 30/11/2011
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  9f14e6fcb1

درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Empty
مُساهمةموضوع: رد: درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)    درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالأربعاء 06 يونيو 2012, 2:34 am

جزاك الله خيرا شعبان
الرجوع الى أعلى الصفحة اذهب الى الأسفل
 
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)
الرجوع الى أعلى الصفحة 
صفحة 1 من اصل 1
 مواضيع مماثلة
-
» درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ في أزهى صفحاته)
» درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر يزهو بها التاريخ)
» درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (أسباب النصر والتمكين أولا الإيمان الخالص)
» درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (درجة إيمان العباد حين يستحقون النصر)
» درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (للخطيئة أثرها في النصر والهزيمة)

صلاحيات هذا المنتدى:لاتستطيع الرد على المواضيع في هذا المنتدى
منتديات بهجة النفوس الاسلامية :: أقسام العلوم الشرعية :: الاسلامي العام-
انتقل الى:  
المواضيع الأخيرة
» رسائل للروح
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالأربعاء 12 أغسطس 2020, 8:49 pm من طرف shaban

» استمع للشيخ حسن صالح صاحب الصوت الجميل
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالخميس 30 نوفمبر 2017, 3:25 pm من طرف احمد المصرى

» الرجوع الى القران الكريم
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالخميس 30 نوفمبر 2017, 3:07 pm من طرف احمد المصرى

» هذا الطفل يقوم الليل
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالخميس 24 أغسطس 2017, 2:59 am من طرف shaban

» روائع الاعجاز النفسي - من أسرار السعادة
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالثلاثاء 08 أغسطس 2017, 2:09 am من طرف shaban

» الوسائل النبوية فى كسب قلوب البرية(7)
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالإثنين 07 أغسطس 2017, 10:41 pm من طرف shaban

» تفسير القران الكريم للشيخ ابو بكر الجزائرى
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالأربعاء 01 فبراير 2017, 5:37 pm من طرف احمد المصرى

» عشرة نساء لا ينساهن الرجل
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالأحد 29 يناير 2017, 8:19 am من طرف shaban

» الالتزام بمنهج اهل السنه
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالخميس 15 ديسمبر 2016, 5:51 pm من طرف احمد المصرى

» التلاوة التى هزت أركااااان الهند (2016) شيئ يفووووق الخياااال لملك المقامات وقارئ شباب العالم الاول
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالخميس 15 ديسمبر 2016, 5:47 pm من طرف احمد المصرى

» فديو للشيخ ابو اسحاق الحوينى
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالخميس 15 ديسمبر 2016, 5:43 pm من طرف احمد المصرى

» لكل قاتل قتله
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالخميس 08 ديسمبر 2016, 11:58 pm من طرف احمد المصرى

» الصلاة على النبى صل الله عليه وسلم
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالجمعة 14 أكتوبر 2016, 2:50 pm من طرف احمد المصرى

» الاعجاز فى القران الكريم
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالجمعة 14 أكتوبر 2016, 2:09 pm من طرف احمد المصرى

» لا ادرى
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالأربعاء 06 يناير 2016, 5:34 pm من طرف احمد المصرى

» الحديث الثانى من الاربعين النوويه
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالأربعاء 06 يناير 2016, 4:31 pm من طرف احمد المصرى

» معا لنصرة المسجد الاقصى وتحريره
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالأربعاء 30 ديسمبر 2015, 2:46 am من طرف احمد المصرى

» تحكيم شرع الله
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالأربعاء 30 ديسمبر 2015, 12:41 am من طرف احمد المصرى

»  تحكيم شرع الله عزوجل
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالثلاثاء 29 ديسمبر 2015, 11:56 pm من طرف احمد المصرى

» القدس رمز الأمة
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  I_icon_minitimeالثلاثاء 24 نوفمبر 2015, 5:49 pm من طرف احمد المصرى

أفضل 10 أعضاء في هذا المنتدى
shaban - 17315
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_rcap1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Voting_bar1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_lcap 
اريج الجنة - 5330
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_rcap1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Voting_bar1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_lcap 
محمد - 2800
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_rcap1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Voting_bar1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_lcap 
الشافعي - 1989
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_rcap1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Voting_bar1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_lcap 
زهرة الفردوس - 281
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_rcap1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Voting_bar1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_lcap 
الرحال - 163
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_rcap1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Voting_bar1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_lcap 
محمد احمد غيث - 130
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_rcap1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Voting_bar1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_lcap 
هايدي - 116
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_rcap1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Voting_bar1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_lcap 
احمد المصرى - 61
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_rcap1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Voting_bar1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_lcap 
معتز - 50
درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_rcap1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Voting_bar1درة اليقين في اسباب النصر والتمكين - (مآثر خلدها التاريخ)  Vote_lcap 
أفضل 10 أعضاء في هذا الشهر
لا يوجد مستخدم

.: عدد زوار المنتدى :.

ضع اميلك ليصلك كل ما هو جديد:

لا تنسى الضغط على رابط التفعيل فى بريدك لاتمام الاشتراك

منتديات بهجة النفوس الاسلامية

[جميع ما يطرح في منتديات بهجة النفوس الإسلامية لا يعبر عن رأي الإدارة بالضروري ،وإنما يعبر عن رأي الكاتب ]

للتسجيل اضغط هـنـا

Twitter Delicious Facebook Digg Stumbleupon Favorites More