الفائدة الخامسة:
مظان الحديث الصحيح:
قلنا: إن البخاري ومسلما لم يستوعبا كل الصحيح ولم يلتزما ذلك، وإذا كان الأمر كذلك فلنلتمس الصحيح الزائد على ما فيها من الكتب التي جمعت بين الصحيح وغيره، أو التزم أصحابها تخريج الصحيح.
ومظان الصحيح -بعد الصحيحين- كتاب "الموطأ" لإمام دار الهجرة مالك بن أنس الأصبحي المتوفى سنة 179 وكتب السنن الأربعة، وهي السنن لأبي داود السجستاني1، والسنن لأبي عيسى الترمذي2 والسنن للنسائي3، والسنن لابن ماجه4 والسنن لأبي الحسن الدارقطني5, ولا يكفي مجرد كونه موجودا في كتاب أبي داود وغيره من الكتب التي جمعت بين الصحيح والحسن والضعيف, بل لا بد من أن يكون أحد هؤلاء قد نص على صحته أو صححه أحد ممن يؤخذ بقولهم, فإن لم تجد تنصيصا على صحته فلا بد من البحث والتحري عن الرواة
__________
1 هو أبو داود سليمان بن الأشعث الأزدي السجستاني ولد عام 202 وتوفي في شوال عام 275هـ.
2 هو أبو عيسى محمد بن عيسى الترمذي له السنن وكتاب "العلل وكتاب الشمائل النبوية ولد عام 209هـ, وتوفي بترمذ في رجب عام 279هـ.
3 أبو عبد الرحمن أحمد بن شعيب الخراساني النسائي صاحب كتاب "المجتبى" والمعروف بسنن النسائي ولد عام 215 وتوفي سنة 303هـ و"المجتبى" هو السنن الصغير مختار من "السنن الكبير" له.
4 هو أبو عبد الله محمد بن يزيد بن ماجه القزويني له كتاب "السنن" ولد سنة 207, وتوفي في رمضان سنة 273هـ.
5 هو الإمام أبو الحسن علي بن عمر بن أحمد البغدادي الشهير بالدارقطني المتوفى سنة 385هـ, وله كتاب السنن المشهور.
والمروي حتى يتبين لك صحته إن كنت من أهل العلم بالحديث القادرين على التمييز بين الصحيح وغيره.
ومنها الكتب التي التزم أصحابها تخريج الصحيح مثل صحيح ابن خزيمة1, وصحيح أبي حاتم محمد بن حبان البستي2, ومثل المستدرك للحاكم أبي عبد الله3.
ومما ينبغي أن يعلم أن صحيح ابن خزيمة أعلى مرتبة من صحيح أبي حاتم بن حبان لشدة تحريه حتى إنه يتوقف في التصحيح لأدنى كلام في الإسناد، وأما ابن حبان فهو من المتساهلين في التصحيح، وكذلك الحاكم يتساهل في الحكم بالصحة، وتساهله أشد من تساهل ابن حبان ولذلك لا ينبغي أن تعتمد تصحيحهما إلا بعد البحث والتحري أو أن نجد من وافقه على التصحيح من أئمة هذا العلم.
ومن مظان الصحيح الكتب المستخرجة4 على الصحيحين أو أحدهما ككتاب أبي بكر الإسماعيلي "على البخاري", وكتاب أبي بكر البرقاني5 "على البخاري أيضا", وكتاب أبي عوانة الإسفراييني "على صحيح مسلم" وكتاب أبي نعيم الأصفهاني "عليهما" وغيرها6.
__________
1 هو الإمام أبو بكر محمد بن إسحاق بن خزيمة شيخ ابن حبان توفي سنة 311هـ, وله كتاب الصحيح.
2 هو أبو حاتم محمد بن حبان البستي شيخ الحاكم توفي سنة 354هـ له كتاب "التقاسيم والأنواع".
3 هو أبو عبد الله محمد بن عبد الله النيسابوري المعروف بالحاكم توفي سنة 405هـ, له "المستدرك على الصحيحين".
4 الاستخراج: أن يعمد حافظ من الحفاظ إلى صحيح البخاري أو مسلم مثلا, فيورد أحاديثه بأسانيد لنفسه غير ملتزم فيها ثقة الرواة من غير طريق البخاري أو مسلم إلى أن يلتقي مع صاحب الكتاب في شيخه أو من فوقه، والكتاب يسمى "المستخرَج" بفتح الراء، ومؤلفه يسمى "المستخرِج" بكسر الراء وفائدة المستخرجات:
1- ما يقع فيها من الزيادات في الأحاديث التي لم تكن في الأصل المستخرج علنية.
2- علو الإسناد.
3- تكثير طرق الحديث ليرجح بها عند التعارض.
5 هو الإمام أبو بكر أحمد بن محمد بن أحمد "الخوارزمي" اليرقاني الشافعي المتوفى سنة خمس وعشرين وأربعمائة. تذكرة الحفاظ ج3 ص807.
6 من أراد زيادة في هذا فليرجع إلى كتابي أعلام المحدثين من ص332-342 فقد ترجمت لأصحاب المستخرجات.
ومنها كتاب "المختارة" للشيخ الحافظ ضياء الدين محمد بن عبد الواحد المقدسي المتوفى سنة 643هـ, وقد قال ابن كثير فيه: "كان بعض الحفاظ من مشايخنا يرجحه على مستدرك الحاكم", ولعل مراده ببعض مشايخه الإمام ابن تيمية.
ومنها كتب "المسانيد" كمسند الإمام الجلي أحمد1 ومسند أبي يعلى، والبزار، وعبد بن حميد وكذا يوجد في معجمي الطبراني2 الكبير والأوسط، وغير ذلك من المسانيد والمعاجم والفوائد، والأجزاء.
ولا بد في كتب المسانيد، والمعاجم، ونحوها من أن ينص المخرج للحديث على صحته أو ينص على ذلك إمام معتبر آخر، فإن لم يوجد فلا بد لك من البحث والتحري, حتى تتحقق أنه صحيح إن كنت من أهل الحديث والعلم به سندا ومتنا.
__________
1 هو الإمام الجليل شيخ الإسلام ومحيي السنة أبو عبد الله أحمد بن محمد بن حنبل الشيباني ولد سنة 164هـ وتوفي سنة 241هـ, وله كتاب "المسند" المشهور, ومعنى المسند الكتاب الذي جمعت فيه أحاديث كل صحابي على حدة من غير نظر لوحدة الموضوع, وقد رتب فيه الصحابة على حسب الفضل.
2 الطبراني هو الإمام الحافظ أبو القاسم سليمان بن أحمد بن أيوب الشامي المتوفى سنة ستين وثلاثمائة, وهو منسوب إلى طبرية على غير قياس.
"تعقيبات وتنبيهات":
"الأول" إذا علمت أن كتب السنن جمعت بين الصحيح وغيره تبين لك أن صنيع الحاكم أبي عبد الله، والخطيب البغدادي في تسميتها كتاب الترمذي، "الجامع الصحيح" فيه تساهل منهما؛ لأن فيه الصحيح والحسن والضعيف, وفيه أحاديث منكرة بل وأحاديث موضوعة -على قلة- ولا سيما في الفضائل.
"الثاني" وكذلك ما قاله الحافظ أبو علي بن السكن، والخطيب البغدادي في كتاب "السنن" للنسائي: إنه صحيح، وإن له شرطا
في الرجال أشد من شرط مسلم, غير مسلم, وهو تساهل منهما أيضا لأن في سنن النسائي الصحيح وغيره, وفيه أحاديث ضعيفة، ومعللة ومنكرة، كما أن في رواته رجالا مجهولين إما عينا أو حالا، بل وفيهم المجروح.
"الثالث": وكذا قول الحافظ أبي طاهر السلفي في الأصول الخمسة, وهي:
1- صحيح البخاري.
2- وصحيح مسلم.
3- وسنن أبي داود.
4- وسنن الترمذي.
5- وسنن النسائي.
"إنه اتفق على صحتها علماء المشرق والمغرب" تساهل منه، وكلامه مسلم في الصحيحين أما في السنن الثلاث فلا.
وقد حاول الإمام العراقي الإجابة عن السلفي، وتصحيح كلامه فقال: "إنما قال السلفي بصحة أصولها ولا يلزم من أن يكون الشيء له أصل صحيح أن يكون هو صحيحا"1.
"الرابع": مما ينبغي أن يعلم أن الكتب الخمسة المذكورة وهي الصحيحان، والسنن الثلاث أعلى مرتبة من كتب المسانيد كمسند عبد بن حميد، وأحمد بن حنبل، وأبي داود الطيالسي2 وغيرهم؛ لأن عادة أصحاب المسانيد أن يخرجوا في مسند كل صحابي ما رووه من حديثه غير متقيدين بأن يكون حديثا محتجا به, فلهذا تأخرت مرتبتها -وإن جلت لجلالة مؤلفيها- عن مرتبة الكتب الخمسة، وما التحق بها من الكتب المؤلفة على الأبواب.
"الخامس": كتاب "الموطأ" للإمام مالك بن أنس من العلماء من قدمه على الصحيحين كالإمام أبي بكر العربي، ومنهم من جعله في درجتهما, وإليه يشير كلام الدهلوي في "حجة الله البالغة" ومنهم من جعله في مرتبة دونهما وإليه يميل كلام ابن الصلاح في مقدمته3, وابن
__________
1 شرح العراقي على مقدمة ابن الصلاح ص47.
2 قد قدمت ما يتعلق بمسند أبي داود الطيالسي, وأنه من جمع من بعده "التدريب ص102" ط المحققة.
3 علوم الحديث لابن الصلاح ص25 ط العاصمة.
حزم في مقالة له رتب فيها كتب الحديث بحسب درجتها، وقال بعض العلماء المتأخرين: "الحق أن ما في الموطأ من الأحاديث الموصولة المرفوعة إلى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- صحاح كلها, وهي في الصحة كأحاديث الصحيحين, وأما ما فيه من المراسيل، والبلاغات1, وغيرها فيعتبر فيها ما يعتبر في أمثالها مما تحويه الكتب الأخرى".
وإنما لم يعده بعض العلماء في الكتب الصحاح لكثرة ما فيه من المراسيل، والبلاغات والمنقطعات وكثرة الآراء الفقهية فيه لمالك وغيره2.
أما إفاضة القول في "الموطأ" ففي كتابي "أعلام المحدثين3" فليرجع إليه من يشاء.
__________
1 البلاغات: هي ما يقول فيها الإمام مالك: بلغني عن فلان مثل قوله: بلغني عن أبي هريرة أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم- قال: "للمملوك طعامه وكسوته".
2 الباعث الحثيث إلى علوم الحديث ص30 هامش.
3 ص59، 60.
الوَسيط في عُلوم ومُصْطلح الحَديث
محمد بن محمد بن سويلم أبو شُهبة (المتوفى: 1403هـ)