الإيمان يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان
أجمع أهل السنة والجماعة على أن الإيمان نطق باللسان، واعتقاد بالجَنان (أي القلب)، وعمل بالأركان (أي الجوارح)؛ يزيد بالطاعة وينقص بالعصيان، وقد دلت على هذا الأدلة من الكتاب والسنة؛ فمنها قوله تعالى: âلِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَعَ إِيمَانِهِمْá [الفتح: 4]، وقوله: âأَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًاá [التوبة 124]، وقوله خ: "مَن رأى منكم منكرًا فليغيرْه بيدِه، فإنْ لم يَستطعْ فبلسانِه، فإنْ لم يَستطِعْ فبقلبِهِ، وذلكَ أضعفُ الإيمانِ"[البخاري].
[وقد ثبت لفظ الزيادة والنقصان عن الصحابة y، ولم يُعرف فيه مخالف من الصحابة، فروى الناس من وجوه كثيرة مشهورة عن حماد بن سلمة عن أبي جعفر عن جده عمير بن حبيب الخطمي؛ وهو من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: الإيمان يزيد وينقص. قيل: ما زيادته، وما نقصانه؟ قال: إذا ذكرنا الله وحمدناه وسبحناه؛ فتلك زيادته. وإذا غفلنا ونسينا؛ فذلك نقصانه.
وقال أحمد بن حنبل: حدثنا يزيد، حدثنا جرير بن عثمان؛ قال: سمعت أشياخنا أن أبا الدرداء رضي الله عنه قال: إنَّ مِن فقه العبد أنْ يتعاهد إيمانه وما نقص منه، ومِن فقه العبد أنْ يعلم أيزداد هو أم ينقص، وإنَّ مِن فقه الرجل أنْ يعلم نزغات الشيطان أنَّى تأتيه؟
وقال أحمد بن حنبل: حدثنا يزيد بن هارون، حدثنا محمد بن طلحة، عن زبيد، عن ذر قال: كان عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول لأصحابه: هلموا نزداد إيمانًا؛ فيذكرون الله عز وجل.
وهذه الزيادة أثبتها الصحابة بعد موت النبي صلى الله عليه وسلم ونزول القرآن كله.
وصح عن عمار بن ياسر رضي الله عنه أنه قال: ثلاثٌ مَن كن فيه فقد استكمل الإيمان: الإنصاف من نفسه، والإنفاق من الإقتار، وبذل السلام للعالم. [ذكره البخاري في صحيحه]
وقال جندب بن عبد الله وابن عمر وغيرهما: تعلمنا الإيمان، ثم تعلمنا القرآن فازددنا إيمانًا.] [الإيمان لابن تيمية (ملخصًا)]
فـ[الإيمان له شطران: عقيدة نقية راسخة تستكن في القلب، وعمل يظهر على الجوارح، فإذا فقـد أحد الركنين؛ فإن الإيمان يزول أو يختل؛ إذ الاتصال بين الطرفين وثيق جدا.
مثل الإيمان كشجرة طيبة ضاربة بجذورها في الأرض الطيبة، وباسقة بسوقها في السماء، مزهرة مثمرة معطاءة، تعطي أكلها كل حين بإذن ربها..
فالإيمان هو الشجرة، وجذورها هي العقيدة التي تغلغلت في قلب صاحبها، والسوق والفروع والثمار هي العمل. ولا شك أن الجذور إذا خُلعت أو تعفنت فسدت الشجرة ويبست، ولم يبقَ لها وجود. وكذلك الإيمان لا يبقى له وجود إذا زالت العقيدة. أما إذا قُطعت الساق والفروع، أو قطع بعض منها؛ فإن الشجرة تضعف وتهزل، وقد تموت كليًّا؛ لأن وجود الفروع والأوراق ضروري كي تحافظ الشجرة على بقائها. وكذلك الأعمال إذا تُركت أو تُرك جزء منها؛ فإن الإيمان ينقص أو يزول.
ومن هنا يجب الاعتناء بفعل الأعمال التي فرضها الله علينا، أو حبب إلينا القيام بها، وبترك ما نهى عنه من أعمال؛ لأن ذلك جزء من الإيمان؛ فالعمل المتروك -وإن كان قليلا- ينقص من الإيمان بذلك المقدار. ومن هنا يجب أن يتنبه الذين يهونون من شأن العمل بسنة الرسول صلى الله عليه وسلم والتزامها إلى خطورة موقفهم.] [العقيدة في الله]
و[الناس متفاوتون في الدين بتفاوت الإيمان في قلوبهم، متفاضلون فيه بحسب ذلك. فأفضلهم وأعلاهم أولو العزم من الرسل، وأدناهم المخلِّطون من أهل التوحيد، وبين ذلك مراتب ودرجات لا يحيط بها إلا الله عز وجل؛ الذي خلقهم ورزقهم. وكما يتفاوتون في مبلغ الإيمان من قلوبهم يتفاوتون في أعمال الإيمان الظاهرة، بل يتفاضلون في عمل واحد؛ يعمله كلهم في آن واحد، وفي مكان واحد! فإن الجماعة في الصلاة صافون كلهم في رأي العين، مستوون في القيام والركوع والسجود، والخفض والرفع، والتكبير والتحميد، والتسبيح والتهليل، والتلاوة وسائر الأذكار والحركات والسكنات؛ في مسجد واحد، ووقت واحد، وخلف إمام واحد؛ وبينهم من التفاوت والتفاضل ما لا يُحصى! فهذا قرة عينه في الصلاة؛ يود إطالتها ما دام عمره، وآخر يرى نفسه في أضيق سجن؛ يود انقضاءها في أسرع من طرفة عين، أو يود الخروج منها، بل يتندم على الدخول فيها! وهذا يعبد الله على وجه الحضور والمراقبة؛ كأنه يشاهده، وآخر قلبه في الفلوات؛ قد تشعبت به الضيعات، وتفرقت به الطرقات؛ حتى لا يدري ما يقول، ولا ما يفعل، ولا كم صلى.. وهذا تُرفَع صلاته تتوهج بالنور؛ حتى تخترق السموات إلى عرش الرحمن عز وجل.. وهذا تخرج مُظلمة لظلمة قلبه؛ فتُغلَق أبواب السماء دونها؛ فتُلَف كما يُلَف الثوب الخَلَق؛ فيُضرَب بها وجه صاحبها.. وهذا يُكتَب له أضعافها وأضعاف مضاعفة.. وهذا يخرج منها وما كُتِب له إلا نصفها؛ إلا ربعها؛ إلا ثمنها؛ إلا عشرها.. وهذا يحضرها صورة؛ ولم يُكتب له منها شيء.. وهذا منافق يأتيها رئاء الناس، ولا يؤمن بالله واليوم الآخر..
هذا والناظر إليهم يراهم مستوين في فعلها، ولو كُشِف له الحجاب لرأى مِن الفرقان ما لا يقدر قدره إلا الله؛ الرقيب على كل نفس بما كسبت؛ الذي أحاط بكل شيء علمًا؛ لا تخفى عليه خافية..
وكذلك الجهاد؛ ترى الأمة من الناس يخرجون فيه مع إمام واحد، ويقاتلون عدوًّا واحدًا؛ على دين واحد، متساوين ظاهرًا في القوى والعدد؛ فهذا يقاتل حمية وعصبية.. وهذا يقاتل رياء وسمعة؛ لتُعلَم شجاعته، ويُرَى مكانه.. وهذا يقاتل للمغنم؛ ليس له هم غيره.. وهذا يقاتل لتكون كلمة الله هي العليا؛ وذا هو المجاهد في سبيل الله لا لغيره، وهذا هو الذي يُكتَب له بكل حركة أو سكون، أو نصب أو مخمصة؛ عمل صالح.. وهكذا الزكاة، والصوم، والحج، والأمر بالعروف، والنهي عن المنكر، وجميع أعمال الإيمان؛ الناس فيها على هذا التفاوت والتفاضل؛ بحسب ما وقر في قلوبهم من العلم واليقين، وعلى ذلك يموتون، وعليه يُبعثون، وعلى قدره يقفون في عرق الموقف، وعلى ذلك الوزن والصحف، وعلى ذلك تُقسم الأنوار على الصراط، وبحسب ذلك يمرون عليه، ومَن يبطئ به عمله لم يسرع به نسبه، وبذلك يتسابقون في دخول الجنة، وعلى حسبه رفع درجاتهم، وبقدره تكون مقاعدهم من ربهم تبارك وتعالى في يوم المزيد، وبمقدار ذلك ممالكهم فيها ونعيمهم، والله يختص برحمته من يشاء، والله ذو الفضل العظيم.] [معارج القبول]
عن محمد بن عبد الملك المصيصي قال: كنا عند سفيان بن عيينة في سنة سبعين ومائة فسأله رجل عن الإيمان، فقال: قول وعمل. قال: يزيد وينقص؟ قال: يزيد ما شاء الله, وينقص حتى لا يبقى منه مثل هذه, وأشار سفيان بيده. قال الرجل: كيف نصنع بقوم عندنا يزعمون أن الإيمان قول لا عمل؟ قال سفيان: كان القول قولهم قبل أن تقرر أحكام الإيمان وحدوده, إن الله عز وجل بعث نبينا محمدًا صلى الله عليه وسلم إلى الناس كلهم كافة أن يقولوا: لا إله إلا الله, وأنه رسول الله. فلما قالوها عصموا بها دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله عز وجل, فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم, أمره أن يأمرهم بالصلاة, فأمرهم ففعلوا, فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم, فلما علم الله جل وعلا صدق ذلك من قلوبهم, أمره أن يأمرهم بالهجرة إلى المدينة, فأمرهم ففعلوا, فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم, فلما علم الله تبارك وتعالى صدق ذلك من قلوبهم, أمرهم بالرجوع إلى مكة ليقاتلوا آباءهم وأبناءهم, حتى يقولوا كقولهم, ويصلوا صلاتهم, ويهاجروا هجرتهم, فأمرهم ففعلوا, فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم ولا هجرتهم, ولا قتالهم, فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمره أن يأمرهم بالطواف بالبيت تعبدًا, وأن يحلقوا رءوسهم تذللاً ففعلوا, فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول, ولا صلاتهم, ولا هجرتهم, ولا قتلهم آباءهم, فلما علم الله عز وجل صدق ذلك من قلوبهم أمرهم أن يأخذ من أموالهم صدقة يطهرهم بها, فأمرهم ففعلوا حتى أتوا بها قليلها وكثيرها, فوالله لو لم يفعلوا ما نفعهم الإقرار الأول ولا صلاتهم, ولا هجرتهم, ولا قتالهم آباءهم ولا طوافهم, فلما علم الله تبارك وتعالى الصدق من قلوبهم فيما تتابع عليهم من شرائع الإيمان وحدوده قال عز وجل: قل لهم: âالْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًاá [المائدة:3].
قال سفيان الثوري: فمن ترك خَلَّة من خِلال الإيمان كان بها عندنا كافرًا، ومن تركها كسلاً أو تهاونًا بها أدبناه وكان بها عندنا ناقصًا؛ هكذا السُّنة أبلغها عني من سألك من الناس. [الشريعة للآجري]
دُرّة اليقين في أسْباب النصْر والتمْكين
جمع وإعداد جميلة المصري