حدَّثَنَا إبراهيم بن موسى، أخبرنا هشام بن يوسف، أن ابن جريج أخبرهم قال: "وأخبرني"1 يوسف بن ماهك قال: إني عند عائشة أم المؤمنين -رضي الله عنها؛ إذ جاءها عراقي فقال: أيُّ الكفن خير؟ قالت: ويحك، ما يضرك؟ قال: يا أم المؤمنين أريني مصحفك، فقالت: لِمَ؟ قال: لَعَلِّي أؤلف القرآن عليه، فإنه يقرأ غير مؤلف, قالت: وما يضرُّك أيه قرأت قَبْلُ؟ إنما نزل أوَّلَ ما نزل منه سورة من المفصَّلِ فيها ذكر الجنة والنار، حتى إذا ثاب الناس إلى الإسلام نزل الحلال والحرام، ولو نزل أول "شيء"2: لا تشربوا الخمر، لقالوا: لا ندع الخمر أبدًا، ولو نزل: لا تزنوا، لقالوا: لا ندع الزنا أبدًا, لقد نزل بمكة على محمد -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, وإني لجارية ألعب: {بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ} ، وما نزلت سورة البقرة والنساء إلّا وأنا عنده. قال:
__________
1 كذا أداة التحمل مسبوقة بواو العطف، قال الحافظ في "الفتح" "9/ 39": "كذا عندهم، وما عرفت ماذا عطف عليه، ثم رأيت الواو ساقطة في رواية النسفي، وما وقفت عليه من طرق هذا الحديث". أ.هـ. فتعقبه البدر العيني -كعادته- في "العمدة" "20/ 22" فقال: "وقال بعضهم -وهو يعني: الحافظ: ما عرفت... إلخ, قلت: يجوز أن يكون معطوفًا على محذوف تقديره أن يقال: قال ابن جريج: أخبرني فلان بكذا, وأخبرني يوسف بن ماهك... إلى آخره". انتهى كلام البدر، ولا يخفى ما فيه؛ أن الحافظ قصد أنه ما وقف على روايةٍ تُعَيِّنُ له من الذي عناه ابن جريج بهذا العطف، وهذا التجويز من العيني، لا يعجز عن تقديره من هو أقل من الحافظ علمًا بمائة درجة، فكيف به؟! والله أعلم.
2 في "أ": "شيء نزل"؛ وزيادة "نزل" مقحمة لا معنى لها.
فأخرجت له المصحف، فأملت عليه آي السور.
والمراد من التأليف ههنا ترتيب سوره؛ وهذا العراقي سأل أولًا عن أيِّ الكفن خيرٌ أو أفضل، فأخبرته عائشة -رضي الله عنها- أن هذا مما لا ينبغي أن يُعْتَنى1 بالسؤال عنه، ولا القصد له ولا الاستعداد؛ فإن في هذا تكلفًا لا طائل تحته، وكانوا في ذلك الزمان يصفون أهل العراق بالتعنُّت في الأسئلة، كما سأل بعضهم2 عبد الله بن عمر عن دم البعوض3 [يصيب الثوب، فقال ابن عمر: انظروا إلى أهل العراق، يسألون عن دم البعوض]3 وقد قتلوا ابن بنت رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ!! ولهذا لم تبالغ معه عائشة -رضي الله عنها- في الكلام لئلَّا يظنّ أن ذلك أمرٌ مهمٌّ4، وإلا:
فقد روى أحمد5 و"أهل السنن" من حديث سمرة وابن عباس، عن
__________
1 ولهذا كانوا يصرفون السائل إلى ما ينفعه، ومثاله ما رواه الشيخان عن أنس، أن رجلًا سأل النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- فقال: متى الساعة؟ فقال له: "وما أعددت لها" ؟. فانظر -يرحمك الله- كيف صرفه عن السؤال الذي لا طائل تحته، ووجَّهَه إلى ما ينبغي له أن يعتني به. وهكذا فليكن الدعاة إلى الله تعالى مع الناس.
2 يشير إلى الحديث الذي رواه البخاري في "صحيحه" "7/ 95، 10/ 426"، وفي "الأدب المفرد" "85"، والنسائي في "الخصائص" "141"، والترمذي "3770" وغيرهم، من طريق محمد بن أبي يعقوب، عن عبد الرحمن ابن أبي نعم؛ قال: كنت شاهدًا لابن عمر وسأله رجل عن دم البعوض؟؛ فقال: ممن أنت؟ قال: من أهل العراق! قال: انظروا إلى هذا؛ يسألني عن دم البعوض، وقد قتلوا ابن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وسمعت النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقول: "هما ريحانتاي من الدنيا" .
"3-3" ساقط من "جـ".
4 وهذا أصل مهمٌّ جدًّا من أصول الدعوة، فتأمله.
5 أما حديث ابن عباس، فأخرجه:
رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- قال: "البسوا من ثيابكم البياض، وكفنوا فيها موتاكم؛ فإنها أطهر وأطيب" . وصحَّحَه الترمذي من الوجهين.
وفي "الصحيحين"1 عن عائشة أنها قالت: "كُفِّنَ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- في ثلاثة أثواب بيض سحولية، ليس فيها قميص ولا عمامة". وهذا محرر في باب الكفن من "كتاب الجنائز".
__________
= أحمد "1/ 231، 247، 328، 355، 363"، وأبو داود "3878"، والنسائي "8/ 149-150"، والترمذي "994"، وفي "الشمائل" "51"، وابن ماجه "1472، 3497"، وابن حبان "1439، 1440، 1441"، والحاكم "1/ 354 و4/ 185" وآخرون، من طُرُقٍ عن عبد الله بن عثمان بن خثيم، عن سعيد بن جبير، عن ابن عباس مرفوعًا، فذكره.
وصحَّحَه الترمذي، والحاكم: على شرط مسلم، وابن القطان كما في "التلخيص" "2/ 69"، وجود المصنف إسناده عند الآية رقم "31" من سورة الأعراف. وأما حديث سَمُرَة بن جندب؛ فأخرجه:
النسائي "4/ 34، 8، 205"، وأحمد "5/ 20-21"، وعبد الرزاق "6198"، والطبراني في "الكبير" "ج7/ رقم 6975، 6976"، والحاكم "4/ 185"، والبيهقي "3/ 403" من طريق أيوب السختياني، عن أبي قلابة، عن أبي المهلب، عن سَمُرَة مرفوعًا.
وصحَّحَه الحاكم على شرط الشيخين، وقد اختُلِفَ في إسناده، وقد فصَّلْتُ ذلك في "التسلية".
1 أخرجه البخاري "3/ 135، 140"، ومسلم "941/ 45"، وأبو نعيم في "المستخرج" "ج16/ ق24/ 1"، وأبو داود "3151، 3152"، والنسائي "4/ 35، 36"، والترمذي "996"، وابن ماجه "1469"، وأحمد "6/ 118؛ 214" وآخرون، من طُرُقٍ عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة.
ثم سألها عن ترتيب القرآن، فانتقل إلى سؤال كبير، وأخبرها أنه يقرأ غير مؤلف, أي: مرتَّب السور، وكان هذا قبل أن يبعث أمير المؤمنين عثمان -رضي الله عنه- إلى الآفاق المصاحف الأئمة المؤلفة على هذا الترتيب المشهور اليوم، وقبل الإلزام1 به، والله أعلم، ولهذا أخبرته أنه لا يضرك بأي سورة بدأت، وأن أول سورة نزلت يها ذكر الجنة والنار، وهذه إن لم تكن {اقْرَأْ} [العلق: 1]، فقد يحتمل أنها أرادت اسم جنس لسور المفصل، التي فيها الوعد والوعيد، ثم لما انقاد الناس إلى التصديق، أمروا ونهوا بالتدريج أولًا فأولًا، وهذا من حكمة الله ورحمته.
ومعنى هذا الكلام، أن هذه السورة -أو السور- التي يها ذكر الجنة والنار، ليست البداءة بهاء في أوائل المصاحف، مع أنها من أول ما نزلت، وهذه البقرة والنساء من أوائل ما في المصحف، وقد نزلت عليه في المدينة وأنا عنده.
فأما ترتيب الآيات في السور، فليس في ذلك رخصة، بل هو أمر
__________
1 كذا قال المصنِّف، وتعقَّبَه الحافظ في "الفتح" "9/ 39-40" قائلًا: "كذا قال! وفيه نظر؛ فإن يوسف بن ماهك لم يدرك زمان إرسال عثمان المصاحف إلى الآفاق، فقد ذكر المزيّ أن روايته عن أُبَيّ بن كعب مرسلة، وأُبَيّ عاش بعد إرسال المصاحف على الصحيح، وقد صحَّحَ يوسف في هذا الحديث أنه كان عند عائشة حين سألها هذا العراقي، والذي يظهر لي أن هذا العراقي كان يأخذ بقراءة ابن مسعود لما حضر مصحف عثمان إلى الكوفة، لم يوافق على الرجوع عن قراءته ولا على إعدام مصحفه، فكان تأليف مصحفه مغايرًا لتأليف مصحف عثمان، ولا شكَّ أن تأليف المصحف العثماني أكثر مناسبة من غيره، فلهذا أطلق العراقي أنه غير مؤلف". أ.هـ. ونقله العيني في "العمدة" "20/ 22" ملخصًا، ولم يَعْزُه لصاحبه!
توقيفيّ عن رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، كما تَقَدَّمَ تقرير ذلك، ولهذا لم ترخِّص له في ذلك، بل أخرجت له مصحفها فأملت عليه آي السور، والله أعلم.
وقول عائشة: لا يضرُّك بأيِّ سورة بدأت، يدلُّ على أنه لو قدَّم بعض السور أو أخَّرَ، كما "دل"1 عليه حديث حذيفة "وابن مسعود"2 وهو في "الصحيح"3 أنه -عليه السلام قرأ في قيام الليل: البقرة ثم النساء ثم آل عمران.
وقد حكى4 القرطبي عن أبي بكر بن الأنباري في "كتاب الرد" أنه قال: فمن أخَّرَ سورة مقدمة، أو قدَّم أخرى مؤخرة، كمن أفسد نظم الآيات، وغير الحروف والآيات، وكان مستنده اتباع مصحف عثمان -رضي الله عنه، فإنه مرتَّبٌ على هذا النحو المشهور.
والظاهر أن ترتيب السور "فيه"5: منه ما هو راجع إلى رأي عثمان -رضي الله عنه، وذلك ظاهر في سؤالك ابن عباس له عن تَرْكِ البسملة في أول براءة، وذكره الأنفال من الطُّوُل، والحديث في الترمذي وغيره بإسناد جيد6 قوي.
وقد ذكرنا عن عليٍّ أنه كان قد عزم على ترتيب القرآن بحسب نزوله،
__________
1 في "أ": "يدل".
2 ساقط من "أ".
3 يعني: "صحيح مسلم".
وهو يقصد حديث حذيفة الذي مضى تخريجه. والحمد لله.
4 انظره في "تفسير القرطبي" "1/ 60-61" ولم ينقله المصنف -رحمه الله- بنصِّه، بل تصرَّفَ فيه.
5 ساقط من "أ".
6 كذا قال! وقد ذكرنا قبل ذلك أنه منكر، فراجعه.
ولهذا حكى القاضي الباقلاني أن أوَّل مصحفه كان: "اقرأ باسم ربك الأكرم"، وأوّل مصحف ابن مسعود: {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} ثم البقرة ثم النساء1 [على ترتيب مختلف، وأول مصحف أُبَيّ: "الحمد لله" ثم النساء]1 ثم آل عمران, ثم الأنعام, ثم المائدة، ثم كذا، على اختلاف شديد.
ثم قال القاضي2: ويحتمل أن ترتيب السور في المصحف على ما هو عليه اليوم، من اجتهاد الصحابة -رضي الله عنهم, وكذا ذكر مكي في تفسير سورة براءة، قال: فأما ترتيب الآيات والبسملة في الأوائل فهو من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وقال ابن "2" وهب في "جامعه"3: سمعت سليمان بن بلال يقول: سُئِلَ ربيعة: لم قدَّمت البقرة وآل عمران، وقد نزل قبلهما بضع وثمانون سورة؟ فقال: قُدِّمَتا وأُلِّفَ القرآن على علمٍ مِمَّنْ أَلَّفَه، وقد أجمعوا على العلم بذلك، فهذا مما ينتهي إليه ولا يسأل عنه.
قال ابن وهب: وسمعت مالكًا يقول: إنما أُلِّفَ القرآن على ما كانوا يسمعونه من النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال أبو الحسن2 بن بطال: "إنما يجب"4 تأليف سورة في الرسم والخط خاصَّة، ولا نعلم أن أحدًا قال: إن ترتيب ذلك واجب في الصلاة والقرآن ودرسه، وإنه لا يحلُّ لأحدٍ أن يتلقَّن الكهف قبل البقرة، ولا الحج بعد الكهف، ألا ترى إلى قول عائشة: لا يضرُّك أية قرأت قبل، وقد
__________
"1-1" ساقط من "جـ".
2 انظر هذه النقول في "تفسير القرطبي" "1/ 60-61" ولم ينقلها المصنف -رحمه الله- بنصها، بل تصرَّف فيها.
3 في "أ": "طائفة".
4 في ط"أ": "إنا نجد"!
كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرأ في الصلاة السورة في ركعة، ثم يقرأ في الركعة الأخرى بغير السورة التي تليها.
قال: وأما ما رُوِيَ عن ابن مسعود1 وابن عمر، أنهما كرها أن يقرأ القرآن "منكوسًا"2، وقالا: إنما ذلك منكوس القلب, فإنما عَنِيَا بذلك من يقرأ السورة منكوسة فيبتدئ بآخرها إلى أولها، فإن ذلك حرام محظور"3.
"ثم قال البخاري": حدَّثَنَا آدم عن شعبة, عن أبي إسحاق، قال: سمعت عبد الرحمن بن يزيد قال: سمعت ابن مسعود يقول، في بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء: إنهن من العتاق الأُوَل، وهن من تلادي.
انفرد بإخراجه البخاري4.
__________
1 أخرجه عبد الرزاق "ج4/ رقم 7947", وابن أبي شيبة ط10/ 564", وأبو عبيد "ص56" من طريق الثوري وأبي معاوية معًا عن الأعمش، عن شقيق أبي وائل، عن ابن مسعود قال: يا أيها الناس تعلموا القرآن، فإن أحدكم لا يدري متى يخيّل إليه, قال: فجاءه رجل فقال: يا أبا عبد الرحمن، أرأيت رجلًا يقرأ القرآن منكوسًا؟ قال: ذلك منكوس القلب, قال: وأُتِيَ بمصحفٍ قد زُيِّنَ وذُهِّبَ, فقال عبد الله: إن أحسن ما زُيِّنَ به المصحف تلاوته بالحق. وهذا لفظ عبد الرزاق, ولفظ ابن أبي شيبة مختصر على محل الشاهد, وسنده صحيح.
2 في "جـ" و"ل": "مقلوبًا".
3 إلى هنا انتهى كلام ابن بطال.
4 في "فضائل القرآن" "9/ 39- فتح"، وأخرجه أيضًا في "8/ 388، 435".
وأخرجه ابن الضريس في "فضائل القرآن" "210" قال: أخبرنا عمرو بن مرزوق، أنبأ شعبة به. =
والمراد منه ذكر ترتيب هذه السور في مصحف ابن مسعود كالمصاحف العثمانية، وقوله: من العتاق الأُوَل، أي: من قديم ما نزل.
وقوله: وهُنَّ من تلادي، أي: من قديم ما قَنَيْتُ وحَفِظْتُ, والتالِدُ في لغتهم: قديم المال والمتاع، والطارِفُ: حديثه وجديده، والله أعلم.
حدَّثَنَا أبو1 الوليد، ثنا شعبة، أنا أبو إسحق، سمع البراء بن عازب
__________
= وعزاه السيوطي في "الدر المنثور" "4/ 136" لابن مردويه، وعزاه الحافظ في "الفتح" "8/ 435" للإسماعيلي، فرواه عن أبي إسحاق، عن أبي عبيدة، عن أبيه عبد الله بن مسعود، فذكره. وأخرجه أبو عبيد في "الفضائل" "ص133" وقال: "كان شعبة يخالفه في الإسناد", ولا شكَّ أن رواية شعبة أقوى، وهي المحفوظة، والمسعودي كان اختلط.
وقال أبو عبيد: "قوله: "من تلادي" يعني: من قديم ما أخذت من القرآن، وذلك أن هذه السورة نزلت بمكة". أ.هـ.
1 أخرجه البخاري في "الفضائل" "9/ 39".
وأخرجه البخاري أيضًا "5/ 93 و6/ 622 و7/ 240، 255 و10/ 70- فتح"، ومسلم في "الأشربة" "2009/ 90-91", وفي "الزهد" "2009/ 75"، والنسائي في "التفسير" "686", وأحمد "1/ 2-3 و4/ 284، 291"، وابن أبي شيبة "14/ 327، 330"، ويعقوب بن سفيان في "المعرفة" "1/ 239-241"، وأبو بكر المروزي في "مسند أبي بكر" "62، 63، 64، 65"، وابن حبان "6281، 6870"، والبيهقي في "الدلائل" "2/ 484" من طرقٍ عن أبي إسحاق السبيعي، عن البراء مطولًا ومختصرًا.
وقول المصنِّف -رحمه الله: "متفق عليه"؛ يعني: على أصل الحديث، وإلّا فلم يروِ مسلم قول البراء الذي أخرجه البخاري. والله أعلم.
-رضي الله عنه- يقول: تعلمت {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} قبل أن يقدم النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وهذا مُتَّفَقٌ عليه، وهو قطعة من حديث الهجرة, والمراد منه أن: {سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى} سورة مكية نزلت قبل الهجرة، والله أعلم.
"ثم قال"1: حدَّثَنَا عبدان, عن أبي حمزة, عن الأعمش, عن شقيق قال: قال عبد الله: لقد "علمت"2 النظائر التي كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- يقرؤهن اثنين اثنين في كل ركعة، فقام عبد الله ودخل معه علقمة، وخرج علقمة فسألناه، فقال: عشرون سورة من أول المفصَّل على تأليف ابن مسعود، آخرهن من الحواميم حم الدخان, وعم يتساءلون.
هذا التأليف الذي عن ابن مسعود غريبٌ، مخالف لتأليف عثمان -رضي الله عنه؛ فإن المفصل في مصحف عثمان -رضي الله عنه- من سورة الحجرات إلى آخره، وسورة الدخان لا تدخل فيه بوجه، والدليل على ذلك: ما رواه الإمام3 أحمد: حَدَّثَنَا عبد الرحمن بن مهدي، ثنا عبد الله
__________
1 يعني البخاري في "الفضائل" "9/ 39- فتح".
وأخرجه مسلم "722/ 275-278"، وأبو داود "1396"، والنسائي "2/ 174-176"، والترمذي "602"، وأحمد "1/ 380، 417، 427، 436، 455"، والفريابي "126"، والبيهقي في "الشعب" "1990/ 1991" وغيرهم، وقد سقت طرقه وألفاظه في "التسلية".
2 كذا في "الأصول" كلها، والذي في "البخاري": "تعلَّمت"، ولم يشرْ الحافظ إلى وقوع هذا اللفظ في إحدى روايات "الصحيحة"؛ فالله أعلم.
3 في "مسنده" "4/ 9، 343" ومن طريقه المزيّ في "التهذيب" "19/ 411". =
ابن عبد الرحمن الطائفي، عن عثمان بن عبد الله بن أوس الثقفي، عن جدِّه أوس بن حذيفة قال: كنت في الوفد الذين أتوا "النبي"1 -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ, فذكر حديثًا فيه أن النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- كان سمر معهم بعد العشاء، فمكث عنا ليلة لم يأتنا، حتى طال ذلك علينا بعد العشاء، قال: قلنا: ما أمكثك عنا يا رسول الله؟ قال: " طَرَأَ عليَّ حزبٌ من القرآن، فأردت أن لا أخرج حتى أقضيه" .
قال: فسألنا أصحاب رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- حين أصبحنا، قال: قلنا كيف تحزبون القرآن؟ قالوا: نحزبه ثلاث سور، وخمس سور، وسبع سور، وتسع سور، وإحدى عشرة سورة، وثلاث عشرة سورة، وحزب المفصَّل من ق حتى يختم.
ورواه أبو داود وابن ماجه من حديث عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى الطائفي به.
وهذا إسناد حسن.
__________
= وأخرجه أبو داود "1393"، وابن ماجه "1345"، والبخاري في "التاريخ الكبير" "1/ 2/ 16"، وابن أبي شيبة "2/ 501-502"، والطيالسي "1108"، وابن سعد في "الطبقات" "5/ 510"، وأبو عبيد في "الفضائل" "ص92-93" في آخرين من طريق عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى، عن عثمان بن عبد الله بن أوس، عن جده أوس بن حذيفة، فذكره. وإسناده محتمل للتحسين، لولا الاختلاف الذين وقع في إسناده وحسَّنَه العراقي في "تخريج أحاديث الإحياء" "1/ 276", والذي يترجَّح لدى ضعف إسناده. والله أعلم.
1 في "جـ": "رسول الله"؛ وكتب فوقها بخط دقيق: "النبي".
فصل:
فأما نقط المصحف وشكله، فيقال: إن أوَّل من أمر به: عبد الملك بن مروان، فتصدَّى لذلك الحجاج وهو بواسط، فأمر الحسن البصري ويحيى بن يعمر، ففعلا ذلك، ويُقَالُ: إن أول من نقط المصحف أبو الأسود الدؤلي، وذكروا أنه كان لمحمد بن سيرين مصحفٌ قد نقطه له يحيى بن يعمر، والله أعلم.
وأما كتابة الأعشار على الحواشي، فينسب إلى الحجاج أيضًا.
وقيل: بل أوَّل من فعله المأمون.
وحكى أبو عمرو الداني عن ابن مسعود، أنه كره التعشير في المصحف، وكان يحكه، وكره مجاهد ذلك أيضًا.
وقال مالك: لا بأس به بالحِبْر، فأما بالألوان المصبغة فلا، وأكره تعداد آي السور في أولها في المصاحف الأمهات، فأمَّا ما يتعلم فيه الغلمان فلا أرى به بأسًا.
وقال قتادة: بدأوا فنقطوا ثم خمسوا ثم عشروا.
وقال يحيى بن "أبي"1 كثير: أوَّل ما أحدثوا النقط, وقال: هو نورٌ له، ثم أحدثوا النقط عند آخر الآي، ثم أحدثوا الفواتح والخواتم.
ورأى إبراهيم النَّخْعِيُّ فاتحة سورة كذا، فأمر بمحوها، وقال: قال ابن مسعود: لا تخلطوا بكتاب الله ما ليس فيه.
قال أبو عمرو الدَّاني: ثم قد أَطْبَقَ المسلمون في ذلك -في سائر
__________
1 ساقط من "أ".
الآفاق- على جواز ذلك في الأمهات وغيرها.
ثم قال البخاري1 -رحمه الله: كان جبريل يعرض القرآن على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قال مسروق عن فاطمة عن عائشة: أسرَّ إليَّ رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إن جبريل كان يعارضني بالقرآن كل سنة، وإنه عارضني العام مرتني، ولا أراه إلّا حضر أجلي" .
هكذا2 ذكره معلقًا، وقد أسنده3 في "موضع"4 آخر.
ثم قال5: ثنا يحيى بن قزعة، ثنا ابراهيم بن سعد، عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس قال: كان النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- أجود الناس بالخير، وأجود ما يكون في "شهر"6 رمضان؛ لأن جبريل كان
__________
1 أسقط المصنِّف من كلام البخاري كلمة: "باب"، وقد نبهنا عليه قبل ذلك.
2 في "فضائل القرآن" "9/ 43- فتح".
3 في "كتاب الاستئذان" "11/ 79-80".
وأخرجه مسلم "16/ 5 - نووي"، والنسائي في "الخصائص" "129 - بتحقيقي"، والطحاوي في "المشكل" "1/ 48"، والقطيعي في "زوائد الفضائل" "1343"، والطبراني في "الكبير" "22/ 419"، وأبو نعيم في "الحلية" "2/ 39"، والبيهقي في "الدلائل" "7/ 164-165"، والبغوي في "شرح السنة" "14/ 160" من طرق عن أبي عوانة، عن فراس، عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة مطولًا, وله طريق آخر عن فراس عند مسلم, وابن ماجه "1621".
4 في "أ": "موضع".
5 يعني: البخاري في "الفضائل" "9/ 43".
6 ساقط من "أ".
يلقاه في كل ليلة في شهر رمضان حتى ينسلخ، يعرض عليه رسول الله -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القرآن، فإذا لقيه جبريل كان أجود بالخير من الريح المرسلة.
وهذا الحديث متفق1 عليه.
وقد تقدَّمَ الكلام عليه في أول الصحيح وما فيه من الحكم والفوائد، والله أعلم.
ثم قال2: ثنا خالد بن يزيد، ثنا أبو بكر، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة قال: كان يعرض على النبي -صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ- القرآن كل عام مرة، فعرض عليه مرتين في العام الذي قبض فيه، وكان يعتكف كل عام عشرًا؛ فاعتكف عشرين في العالم الذي قبض.
ورواه أبو داود والنسائي وابن ماجه من غير وجه عن أبي بكر -وهو ابن عياش, عن أبي حصين، واسمه عثمان بن عاصم به.
والمراد من معارضته له بالقرآن كل سنة: مقابلته على ما أوحاه إليه
__________
1 أخرجه البخاري "1/ 30 و4/ 116 و6/ 305، 565"، وفي "الأدب المفرد" "292"، ومسلم "2308/ 50"، والنسائي "4/ 125"، والترمذي في "الشمائل" "346"، وأحمد "1/ 288، 326، 363، 366-367، 373" وآخرون من طرق عن الزهري، عن عبيد الله بن عبد الله، عن ابن عباس، فذكره.
2 يعني: البخاري في "الفضائل" "9/ 43".
وأخرجه النسائي "17"، وابن ماجه "1769"، وأحمد "2/ 399" من طريق أبي بكر بن عياش، عن أبي حصين، عن أبي صالح، عن أبي هريرة، فذكره.
وأخرجه البخاري أيضًا في "كتاب الاعتكاف" "4/ 284-285"، وأبو داود "2466"، والدارمي "1/ 358" مختصرًا بذكر "الاعتكاف".
عن الله تعالى؛ ليبقى ما بقي، ويذهب ما نسخ توكيدًا واستثباتًا وحفظًا.
ولهذا عرضه في السنة الأخيرة من عمره -عليه السلام- "اقتراب أجله"1 على جبريل مرتين، وعارضه به جبريل كذلك، ولهذا فهم -عليه السلام- اقتراب أجله.
وعثمان -رضي الله عنه- جَمَعَ المصحف الإمام على العرضة الأخيرة -رضي الله عنه وأرضاه، وخصَّ بذلك رمضان من بين الشهور؛ لأن ابتداء الإيحاء كان فيه, ولهذا يستحب دراسة القرآن وتكراره فيه، ومن ثَمَّ كثر اجتهاد الأئمة في تلاوة القرآن، كما تقدَّم ذكرنا لذلك.
__________
1 ساقط من "أ" و"ط" و"ل" وهي ريادة قلقة، وإن كان لها وجه في الكلام.