ثالثًا: من أنكرها من أهل العلم مع بيان حجته والرد عليها:
ورد عن بعض السلف كراهية صوم الستة من شوال وعدها بدعة ولم يتطرق أحدٌ ممن أنكرها للأحاديث التي وردت بفضلها لا تصحيحًا ولا تضعيفًا مما يدل على عدم بلوغ هذه الأحاديث إليهم ,فلو بلغتهم ما أنكروها لعظم قدر الحديث عندهم, وقد نقل عن مالك وأبي حنيفة كراهيتها .
قال مالك رحمه الله: إنه لم ير أحد من أهل العلم والفقه,والفضل يصومها, ولم يبلغه ذلك عن أحد من السلف، وإن أهل العلم كانوا يكرهون ذلك، ويخافون بدعيته. وأن يُلحق برمضان أهل الجفاء، وأهل الجهالة ما ليس فيه، ولو رأوا في ذلك رخصة من أهل العلم. ورأوهم يعملون ذلك ([23]) .
وقد اعتذر أهل العلم للإمام مالك رحمه الله بأنه لم يبلغه الحديث والدليل على ذلك أنه قال أنه لم يبلغه عن أحد من أهل العلم أنه صامها:
أ – قال ابن عبدالبر رحمه الله: لم يبلغ مالك حديث أبي أيوب ، على أنه حديث مدني, والإحاطة بعلم الخاصة لا سبيل إليه, والذي كرهه له مالك أمر قد بينه وأوضحه, وذلك خشية أن يضاف إلى فرض رمضان وأن يستبين ذلك إلى العامة وكان رحمه الله متحفظًا كثير الاحتياط للدين.
وأما صيام الستة أيام من شوال على طلب الفضل، وعلى التأويل الذي جاء به ثوبان رضي الله عنه فإن مالكًا لا يكره ذلك إن شاء الله لأن الصوم جُنة ، وفضله معلوم لمن رد طعامه وشرابه وشهوته لله تعالى وهو عمل بر وخير، وقد قال الله: افعلوا الخير ومالك لا يجهل شيئًا من هذا، ولم يكره من ذلك إلا ما خافه على أهل الجهالة والجفاء، إذا استمر ذلك، وخشي أن يعدوه من فرائض الصيام مضافًا إلى رمضان، وما أظن مالكًا جهل الحديث، والله أعلم، لأنه حديث مدني انفرد به عمر بن ثابت ، وقد قيل: أنه روى عنه مالك, ولولا علمه به ما أنكره، وأظن الشيخ عمر بن ثابت لم يكن عنده ممن يعتمد عليه ، وقد ترك مالك الاحتجاج ببعض ما رواه عن بعض شيوخه إذا لم يثق بحفظه ببعض ما رواه، وقد يمكن أن يكون جهل الحديث، ولو علمه لقال به والله أعلم. أ. هـ ([24]) فهذا ابن عبد البر وهو من كبار أتباع الإمام مالك وشارح موطأه قد اعتذر لمالك ولم يتابعه في هذه المسألة ,بل هذا ابن رشد الحفيد أحد المالكية المعروفين يعتذر لمالك أيضاً فيقول : وأما الست من شوال فقد ثبتت عن النبي صلى الله عليه وسلم إلا أن مالكاً كره ذلك إما مخافة أن يلحق الناس برمضان ما ليس في رمضان وإما لأنه لعله لم يبلغه الحديث أو لم يصح عنده وهو الأظهر([25]) .
ب – قال النووي رحمه الله: إذا ثبتت السنة لا تترك لترك بعض الناس أو أكثرهم أو كلهم لها, وقولهم قد يظن وجوبها ينتقض بصوم عرفه وعاشوراء وغيرها من الصوم المندوب([26]) .
جـ - كما رد ابن قدامة على هذا القول بحديث أبي أيوب وحديث ثوبان ([27]) .
د – قال شيخ الإسلام: وكان أحمد ينكر على من ينكرها ... إلخ ([28]) .
و – قال الصنعاني: بعدما أورد قول مالك أنه بعد ثبوت النص بذلك لا حكم لهذه التعليلات ثم اعتذر لمالك بقول ابن عبدالبر ([29]) .
هـ - وقال الشوكاني: ردًا على ما نقل عن أبي حنيفة ومالك بكراهية صومها, واستدلا على ذلك بأنه ربما ظن وجوبها. فقال رحمه الله: وهو باطل لا يليق بعاقل، فضلاً عن عالم نصب مثله في مقابلة السنة الصحيحة الصريحة، وأيضًا يلزم مثل ذلك في سائر أنواع الصوم المرغب فيها ولا قائل به ([30]) .
ح – قالت اللجنة الدائمة: ولا يصح أن يقابل هذا الحديث بما يعلل به بعض العلماء لكراهة صومها من خشية أن يعتقد الجاهل أنها من رمضان، أو خوف أن يظن وجوبها أو بأنه لم يبلغه عن أحد ممن سبقه من أهل العلم أنه كان يصومها فإنه من الظنون، وهي لا تقاوم السنة الصحيحة. ومن علم حجة علة من لم يعلم ([31]) .
خ – قال العلامة ابن عثيمين: كره بعض العلماء صيام أيام الستة كل عام مخافة أن يظن العامة أن صيامها فرض ، وهذا أصل ضعيف غير مستقيم لأنه لو قيل به لزم كراهة الرواتب التابعة للمكتوبات، أن تصلى كل يوم وهذا اللازم باطل وبطلان اللازم يدل على بطلان الملزوم والمحذور الذي يخشى منه يزول بالبيان ([32]) .
وقال في بدائع الصنائع: قال أبو يوسف كانوا يكرهون أن يتبعوا رمضان صومًا خوفًا أن يلحق ذلك بالفريضة وكذا روي عن مالك .والإتباع المكروه هو أن يصوم يوم الفطر ويصم بعده خمسة أيام فأما إذا أفطر يوم العيد ثم صام بعده ستة أيام فليس بمكروه بل هو مستحب وسنة ([33]) .
فأنت تلحظ هنا أن أتباع مالك وأبو حنيفة التمسوا الأعذار لهؤلاء الأئمة فتارةً يعتذرون بعدم وصول الحديث إليهم, وهو الأقرب ,وتارةً يفسرون الكراهية فيمن يعتقدون الوجوب, وتارةً يحملون قولهم على من وصل الست برمضان بدون فصل فصام يوم العيد. فلم نر أحداً منهم قلد هؤلاء الأئمة ورد الحديث, بل نصوا على السنية واعتذروا لسلفهم ,فهل سلك من أثار هذه القضية بين الناس هذا المسلك الطيب.
كما أن على من أثار هذا القول المخالف للسنة الرجوع إلى الحق وما استقرت عليه الأمة من سنية صيام الست وأظنه بحول الله راجع إلى الحق, كما يعتذر له بعدم معرفته بالأدلة وإنما اطلع على قول مالك – رحمه الله – فقط مع إن من الواجب عليه استقصاء المسألة قبل الخوض فيها غفر الله للجميع .
رابعا: إن من الخطأ أن ينبري طالب علم عبر وسائل الإعلام لإثارة هذه الضجة والشوشرة والإثارة وتبديع السلف والخلف ومعارضة الأدلة الصحيحة بدون سند شرعي خاصةً وأن لفظ التبديع وسلوك منهجه بدون دليل من الأمور التي حذّر منها أهل العلم والبدعة عرفها العلماء بعدة تعريفات فهناك من عدها فعل لم يعهد في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم ([34]) وصيام الست سنة عنه صلى الله عليه وسلم فكيف تجعل بدعة؟
وهناك من ذهب إلى أن البدعة كل أمر خالف السنة لأنها طريقة في الدين مخترعة تضاهي الشريعة، بأن يقصد بالسلوك عليها المبالغة في التعبد لله سبحانه ([35]) .فهل يعد صيام الست من ذلك ؟ اللهم إنا نبرأ إليك من هذا القول .
وقال شيخ الإسلام رحمه الله: وقررنا في قاعدة السنة والبدعة: إن البدعة في الدين هي ما لم يشرعه الله ورسوله صلى الله عليه وسلم وهو ما لم يأمر به أمر إيجابي ولا استحباب. فأما ما أمر به أمر إيجاب أو استحباب وعلم الأمر به بالأدلة الشرعية فهو من الدين الذي شرعه الله، وإن تنازع أولي الأمر في ذلك ([36]) وصيام الست شرعه النبي صلى الله عليه وسلم فيخرج عن دائرة البدعة ولله الحمد .
كما إن شيخ الإسلام هنا يبين أن تنازع العلماء في بعض الأمور التي وردت فيها السنة لا تعتبر بدعة وشنع رحمه الله في موطن آخر على من بدّع في أمور فعلها الصحابة حيث قال عن بعض أمور اجتهد فيها الصحابة: فإن هذا لما لم يكن مما يفعله سائر الصحابة، ولم يكن النبي صلى الله عليه وسلم شرعه لأمته، لم يكن أن يقال هذا سنة مستحبة، بل غياته أن يقال هذا مما ساغ الاجتهاد الصحابة، أو مما لا ينكر على فاعله لأنه مما يسوغ فيه الاجتهاد، لا لأنه سنة مستحبة سنها الرسول صلى الله عليه وسلم لأمته ([37]) .
فهل على الأقل جعل مثير هذا القول والداعي إليه مسألة صيام الست مما ساغ فيه الاجتهاد حتى ولو كان الاجتهاد في التصحيح والتضعيف للحديث، أولى من القطع بالبدعة والنهي عن هذه السنة على رؤوس الأشهاد فجعل بقوله المعروف منكرًا والسنة بدعة ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وفي الختام أنصح نفسي وإخواني من طلبة العلم بالتريث في مثل هذه الأمور وعدم التشويش على الناس ومعرفة منهج الرسول صلى الله عليه وسلم في التعامل مع العامة، والله الموفق وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.