الخطبة الثانية
ولم يزل رسول الله بعد رجوعه من تعديل الصفوف يناشد ربه ويقول: ((اللهم أنجز لي ما وعدتني, اللهم إني أنشدك عهدك ووعدك, اللهم إن تهلك هذه العصابة اليوم لا تعبد, اللهم إن شئت لم تعبد بعد اليوم أبدًا)) [1].
وبالغ في الابتهال حتى سقط رداؤه عن منكبيه, فرده عليه الصديق وقال: حسبك يا رسول الله ألححت على ربك, وأغفى النبي إغفاءة ثم رفع رأسه وقال: ((أبشر يا أبا بكر, أتاك نصر الله, هذا جبريل آخذ بعنان فرسه يقوده, على ثناياه النقع)) [2]. ثم خرج من باب العريش, وهو يثب في الدرع ويقول: ((سيهزم الجمع ويولون الدبر)) [3] ثم أخذ حفنة من الحصباء فاستقبل بها قريشًا, وقال: ((شاهت الوجوه)) ورمى بها في وجوههم, فما من المشركين أحد إلا أصاب عينه ومنخريه وفمه من تلك القبضة, [4] وما رميت إذ رميت ولكن الله رمى[الأنفال 17].
وأمر عليه السلام بالهجوم وهو يقول: ((والذي نفسي بيده لا يقاتلهم اليوم رجل فيقتل صابرًا محتسبًا، مقبلاً غير مدبر إلا أدخله الله الجنة, قوموا إلى جنة عرضها السموات والأرض)), فقال عمير بن الحمام: بخ بخ, وأخرج تمرات من قرنه فجعل يأكل منهن ثم قال: لئن أنا حييت حتى آكل تمراتي هذه إنها لحياة طويلة, فرمى بها, ثم قاتلهم حتى قتل[5].
قال ابن عباس رضي الله عنه بينما رجل من المسلمين يشتد في إثر رجل من المشركين أمامه إذا سمع ضربة بالسوط فوقه, وصوت الفارس يقول: أقدم حيزوم, فنظر إلى المشرك أمامه! فخر مستلقياً، فنظر إليه، فإذا هو قد خطم أنفه وشق وجهه كضربة السوط فاخضر ذلك أجمع، فجاء الأنصاري فحدث بذلك رسول الله فقال: ((صدقت, ذاك مدد السماء الثالثة)) [6], وقال أبو داود المازني: إني لأتبع رجلاً من المشركين لأضربه إذ وقع رأسه قبل أن يصل إليه سيفي, فعرفت أنه قد قتله غيري.
قال عبد الرحمن بن عوف: إني لفي الصف يوم بدر إذ التفت, فإذا عن يميني وعن يساري فتيان حديثا السن إذ قال لي أحدهما سرًا عن صاحبه: يا عم أرني أبا جهل, فقلت: يا ابن أخي, فما تصنع به؟ قال أُخبرت أنه يسب رسول الله , والذي نفسي بيده لئن رأيته لا يفارق سوادي سواده حتى يموت الأعجل منا, فتعجبت لذلك, قال: وغمزني الآخر, فقال لي مثلها, فلم أنشب أن نظرت إلى أبي جهل يجول في الناس فقلت: ألا تريان؟ هذا صاحبكما الذي تسألاني عنه.
قال: فابتدراه بسيفيهما فضرباه حتى قتلاه, ثم انصرفا إلى رسول الله فقال: ((أيكما قتله؟)) فقال كل واحد منهما: أنا قتلته, قال: ((هل مسحتما سيفيكما؟)) فقالا: لا, فنظر رسول الله إلى السيفين فقال: ((كلاكما قتله)) [7] وهما معاذ بن عمرو بن الجموح, ومعوذ بن عفراء. وكان النصر بعد ذلك.
الله أكبر... ألا فليصرخ بمثل هذه المواقف في المجالس والدور, ولتسقى هذه البطولة وتلك الغيرة مع ألبان الأمهات, وليعلم الصغار والكبار كيف تكون العزة والدفاع عن الدين ونصرة الحق, والغيرة على الإسلام من أبنائنا الصغار.
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: واعلموا أنما غنتم من شيء فأن لله خمسه وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل إن كنتم آمنتم بالله وما أنزلنا على عبدنا يوم الفرقان يوم التقى الجمعان والله على كل شيء قديرإذ أنتم بالعدوة الدنيا وهم بالعدوة القصوى والركب أسفل منكم ولو تواعدتم لاختلفتم في الميعاد ولكن ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً ليهلك من هلك عن بينة ويحيى من حيّ عن بينة وإن الله لسميع عليمإذ يريكهم الله في منامك قليلاً ولو أراكهم كثيرًا لفشلتم ولتنازعتم في الأمر ولكن الله سلّم إنه عليم بذات الصدوروإذ يريكموهم إذ التقيتم في أعينكم قليلاً ويقللكم في أعينهم ليقضي الله أمرًا كان مفعولاً وإلى الله ترجع الأموريا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم فئة فاثبتوا واذكروا الله كثيرًا لعلكم تفلحون الأنفال:1-45].
[1] رواه البخاري ح(2915).
[2] رواه ابن إسحاق في سيرته. سيرة ابن هشام (2/627).
[3] رواه البخاري ح(4875).
[4] رواه الطبري في تاريخه(2/34).
[5] رواه ابن إسحاق في سيرته. سيرة ابن هشام (2/627).
[6] رواه البخاري ح(1763).
[7] رواه البخاري ح(3141)، ومسلم ح(1752).