أبو بكر الصديق رضي الله عنه - ( الصدِّيق في ميادين الجهاد(5))

سابعاً: في فتح مكة وحنين والطائف:

أ-في فتح مكة 8هـ:

كان سبب الفتح بعد هدنة الحديبية ماذكره ابن اسحاق قال: حدثني الزهري عن عروة ابن الزبير عن المسور بن مخرمة، ومروان بن الحكم أنهما حدثاه جميعاً قالا: في صلح الحديبية أنه من شاء أن يدخل في عقد محمد دخل، ومن شاء أن يدخل في عقد قريش وعهدهم دخل، فتواثبت خزاعة وقالوا نحن ندخل في عقد محمد وعهده، وتواثبت بنو بكر وقالوا نحن ندخل في عقد قريش وعهدهم، فمكثوا في ذلك نحو السبعة أو الثمانية عشر شهراً، ثم إن بني بكر وثبوا على خزاعة ليلاً بماء يقال له الوتير- وهو قريب من مكة - وقالت قريش مايعلم بنا محمد، وهذا الليل ومايرانا من أحد فأعانوهم عليهم بالكراع والسلاح وقاتلوهم معهم للضغن على رسول الله صل الله عليه وسلم فقدم عمرو بن سالم إلى المدينة فأنشد رسول الله صل الله عليه وسلم قائلاً:

اللهم إني ناشد محمداً *** حلف أبينا وأبيك الأتلدا
فانصر هداك الله نصراً أعتدا *** وادع عباد الله يأتوا مددا

فقال النبي صل الله عليه وسلم: نصرت ياعمرو بن سالم( [59]).
وتجهز النبي صل الله عليه وسلم مع صحابته للخروج إلى مكة، وكتم الخبر، ودعا الله أن يعمي على قريش حتى تفاجأ بالجيش المسلم يفتح مكة وخافت قريش أن يعلم النبي صل الله عليه وسلم بما حدث فخرج أبو سفيان من مكة إلى رسول الله فقال: يامحمد، أشدد العقد، وزدنا في المدة، فقال النبي صل الله عليه وسلم: ولذلك قدمت؟ هل كان من حدث قبلكم، فقال معاذ الله نحن على عهدنا وصلحنا يوم الحديبية لانغير ولانبدل، فخرج من عند النبي صل الله عليه وسلم يقصد مقابلة الصحابة عليهم الرضوان( [60]).

1-أبو بكر وأبو سفيان:

طلب أبو سفيان من أبي بكر رضي الله عنه أن يجدد العقد ويزدهم في المدة، فقال أبو بكر: جواري في جوار رسول الله صل الله عليه وسلم ، والله لو وجدت الذر تقاتلكم لأعنتها عليكم. وهنا تظهر فطنة الصديق وحنكته السياسية ثم يظهر الإيمان القوي بالحق الذي هو عليه ويعلن أمام أبي سفيان دون خوف أنه مستعد لحرب قريش بكل مايمكن ولو وجد الذر تقاتل قريشاً لأعانها عليها( [61]).

2-بين عائشة وأبي بكر الصديق رضي الله عنهما:

دخل الصديق رضي الله عنه على عائشة وهي تغربل حنطة وقد أمرها النبي صل الله عليه وسلم بأن تخفي ذلك .. فقال لها أبو بكر: يابنية لم تصنعين هذا الطعام؟ فسكتت، فقال: أيريد رسول الله أن يغزو؟ فصمتت، فقال لعله يريد بني الأصفر - أي الروم - فصمتت، فقال لعله يريد أهل نجد؟ فصمتت، فقال لعله يريد قريشاً، فصمتت، فدخل رسول الله صل الله عليه وسلم فقال الصديق له: يارسول الله أتريد أن تخرج مخرجاً؟ قال: نعم، لعل تريد بني الأصفر؟ قال: لا، قال: أتريد أهل نجد؟ قال: لا، قال: فلعلك تريد قريشاً؟ قال: نعم. قال أبو بكر: يارسول الله أليس بينك وبينهم مدة؟ قال: ألم يبلغك ماصنعوا ببني كعب؟
وهنا سلم أبو بكر للنبي صل الله عليه وسلم وجهز نفسه ليكون مع القائد صل الله عليه وسلم في هذه المهمة الكبرى وذهب مع رسول الله صل الله عليه وسلم المهاجرون والأنصار فلم يتخلف منهم أحد( [62]) .

3-الصديق في دخول مكة:

لما دخل النبي صل الله عليه وسلم مكة في عام الفتح وكان بجانبه أبو بكر رأى النساء يلطمن وجوه الخيل فابتسم إلى أبي بكر رضي الله عنه وقال: يا أبا بكر كيف قال حسان؟ فأنشد أبو بكر:

عَدِمْنَا خَيلنا إن لم تروْها **** تُثير النَّقعَ مَوْعِدُها كَدَاءُ
يباريْنَ الأَسِنَّة مُصغيات **** على أكتَافِها الأسلُ الظّباءُ
تظلُّ جيادُنا متمطِّرات **** تلطمهُنَّ بالخُمرِ النساءُ( [63])

فقال النبي صل الله عليه وسلم: ادخلوها من حيث قال حسان( [64])، وقد تمَّت النعمة على الصديق في هذا الجو العظيم بإسلام أبيه أبي قحافة( [65]) .

ب-في حنين:

أخذ المسلمون يوم حنين درساً قاسياً، إذ لحقتهم هزيمة في أول المعركة جعلتهم يفرون من هول المفاجأة وكانوا كما قال الإمام الطبري: فانشمروا لايلوي أحدٌ على أحد( [66]) وجعل رسول الله صل الله عليه وسلم يقول: أين أيها الناس، هلموا إليَّ، أنا رسول الله، أنا محمد بن عبدالله .. يامعشر الأنصار، أنا عبدالله ورسوله.. ثم نادى عمه العباس وكان جهوري الصوت فقال له: ياعباس ناد: يامعشر الأنصار، يا أصحاب السمرة( [67])، كان هذا هو حال المسلمين في أول المعركة، النبي وحده لم يثبت معه أحد إلا قلة، ولم تكن الفئة التي صبرت مع النبي إلا فئة من الصحابة يتقدمهم الصديق رضي الله عنه ثم نصرهم الله بعد ذلك نصراً عزيزاً مؤزراً( [68])، وكانت هناك بعض المواقف للصديق منها:

1-فتوى الصديق بين يدي رسول الله:

قال ابو قتادة: لما كان يوم حنين نظرت إلى رجل من المسلمين يقاتل رجلاً من المشركين، وآخر من المشركين يختله من ورائه ليقتله فأسرعت إلى الذي يختله فرفع ليضربني وأضرب يده فقطعتها ثم أخذني فضمني ضمّاً شديداً حتى تخوفت ثم ترك فتحلل ودفعته ثم قتلته وانهزم المسلمون وانهزمت معهم، فإذا بعمر بن الخطاب في الناس، فقلت له: ماشأن الناس؟ قال أمر الله ثم تراجع الناس إلى رسول الله، فقال رسول الله: من أقام بينة على قتيل قتله، فله سلبه، فقمت لألتمس بينة قتيلي فلم أرَ أحداً يشهد لي، فجلست ثم بدا لي فذكرت أمره لرسول الله صل الله عليه وسلم فقال رجل من جلسائه: سلاح هذا القتيل الذي يذكر عندي، فأرضه منه فقال أبو بكر: كلا لايعطيه( [69])، أصيبغ من قريش ويدع( [70]) أسداً من أسد الله يقاتل عن الله ورسوله صل الله عليه وسلم ، قال: فقام رسول الله صل الله عليه وسلم فأدّاه إليّ فاشتريت منه خرافاً( [71])، فكان أول مال تأشَّلته في الإسلام( [72]).
إن مبادرة الصديق في الزجر والردع والفتوى واليمين على ذلك في حضرة رسول الله صل الله عليه وسلم ، ثم يصدقه الرسول فيما قال ويحكم بقوله خصوصية شرف، لم تكن لأحد غيره( [73]) ونلحظ في الخبر السابق أن أبا قتادة الأنصاري رضي الله عنه حرص على سلامة أخيه المسلم وقتل ذلك الكافر بعد جهد عظيم، كما أن موقف الصديق رضي الله عنه فيه دلالة على حرصه على إحقاق الحق والدفاع عنه ودليل على رسوخ إيمانه وعمق يقينه وتقديره لرابطة الأخوة الإسلامية وأنها بمنزلة رفيعة بالنسبة له( [74]).

2-الصديق وشعر عباس بن مرداس:

حين استقل العباس بن مرداس عطاءه من غنائم حنين قال شعراً عاتب فيه رسول الله صل الله عليه وسلم حيث قال:

كانت نهابا تلافيتها **** بكرِّي على المُهرِ في الأجْرَع
وإيقاظي القوم أن يرقدوا *** إذا هجع الناس لم أهجع
فأصبح نهبي ونهب العبيد *** بين عيينة والأقرع( [75])
وقد كنت في الحرب ذا تُدْراء *** فلم أُعطَ شيئاً ولم أُمْنَع
إلا أفائل أعطيتها *** عديد قوائمها الأربع( [76])
وما كان حصن ولاحابس *** يفوقان شيخي في المجمع
وماكنت دون امرئ منهما **** ومن تضع اليوم لايُرْفعِ( [77])

فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: اذهبوا به، فأقطعوا عني لسانه، فأعطوه حتى رَضي، فكان ذلك قطع لسانه الذي أمر به رسول الله صل الله عليه وسلم ( [78]).
وأتى العباس رسول الله صل الله عليه وسلم ، فقال له رسول الله صل الله عليه وسلم: أنت القائل: فأصبح نهبي ونهبُ العبيد بين الأقرع وعيينة؟ فقال ابوبكر الصديق: بين عيينة والأقرع؛ فقال رسول الله صل الله عليه وسلم: (هما واحد)، فقال أبوبكر: أشهد أنك كما قال الله تعالى: {وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَقُرْءَانٌ مُبِينٌ} (سورة يس، الآية 69)( [79]).

ج- في الطائف:

في حصار الطائف وقعت جراحات في اصحاب النبي صل الله عليه وسلم وشهادة، ورفع رسول الله صل الله عليه وسلم عن أهل الطائف الحصار ورجع الى المدينة وممن استشهد من المسلمين في هذه الغزوة عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما رمي بسم فتوفي منه بالمدينة بعد وفاة النبي صل الله عليه وسلم ( [80]).
وعندما قدم وفد ثقيف للمدينة ليعلنوا إسلامهم فما إن ظهر الوفد قرب المدينة حتى تنافس كل من أبي بكر والمغيرة على أن يكون هو البشير بقدوم الوفد للرسول صل الله عليه وسلم ، وفاز الصديق بتلك البشارة( [81])، وبعد أن أعلنوا إسلامهم وكتب لهم رسول الله صل الله عليه وسلم كتابهم وأراد أن يؤمّر عليهم أشار أبوبكر بعثمان بن أبي العاص بن أبي العاص -وكان أحدثهم سناً فقال الصديق: يارسول الله إني رأيت هذا الغلام من أحرصهم على التفقه في الاسلام وتعلم القرآن( [82])، فقد كان عثمان بن أبي العاص كلما نام قومه بالهاجرة، عمد الى رسول الله صل الله عليه وسلم فساله في الدين واستقرأه القرآن حتى فقه في الدين وعلم، وكان إذا وجد رسول الله صل الله عليه وسلم نائماً عمد الى أبي بكر وكان يكتم ذلك عن أصحابه فأعجب ذلك رسول الله صل الله عليه وسلم وعجب منه وأحبه( [83]).
وعندما علم الصديق بصاحب السهم الذي أصاب أبنه كانت له مقوله تدل على عظمة إيمانه فعن القاسم بن محمد قال: رُمِيَ عبدالله بن أبي بكر رضي الله عنهما بسهم يوم الطائف، فانتفضت به بعد وفاة رسول الله صل الله عليه وسلم بأربعين ليلة، فمات فقدم عليه وفد ثقيف ولم يزل ذلك السهم عنده، فأخرجه إليهم فقال: هل يعرف هذا السَّهمَ منكم أحد؟ فقال سعيد بن عبيد، أخو بني عجلان: هذا سهم أنا بَرِيْتُهُ ورشته( [84])، عقبته( [85])، وأنا رميت به. فقال أبوبكر رضي الله عنه: فإن هذا السهم الذي قتل عبدالله بن أبي بكر، فالحمدلله الذي أكرمه بيدك، ولم يُهِنك بيده، فإنه أوسع لكما( [86]).

أبوبكرالصّدّيق رَضيَ اللهُ عَنْهُ

شخصيته وعصره

تأليف

الدكتور علي محمد الصَّلاَّبي

_______________________

( [59]) السيرة النبوية لابن هشام (4/44).
( [60]) التاريخ السياسي والعسكري، د. علي معطي، ص365؛ الطبري (3/43).
( [61]) تاريخ الدعوة الاسلامية، ص145.
( [62]) مغازي الواقدي (2/796).
( [63]) الحاكم في المستدرك: صحيح الإسناد ووافقه الذهبي (3/72).
( [64]) نفس المرجع السابق (3/72)؛ الطبري (3/42).
( [65]) تاريخ الدعوة الاسلامية، ص147.
( [66]) تاريخ الطبري (3/74).
( [67]) مسلم، كتاب الجهاد والسير، باب في غزوة حنين (3/1398) رقم 1775.
( [68]) مواقف الصديق مع النبي في المدينة، ص43.
( [69]) لا يعطه: أي لايعطي رسول الله. وقوله أصيبغ نوع من الطيور شبه له لعجزه وضعفه.
( [70]) يدع: يترك.
( [71]) خرافاً: أي بستاناً أقام الثمر مقام الأصل.
( [72]) البخاري، كتاب المغازي (5/119) رقم 4322.
( [73]) الرياض الناظرة في مناقب العشرة، ابي جعفر محب الدين، ص185.
( [74]) التاريخ الاسلامي للحميدي (8/26).
( [75]) العبيد: اسم فرس عباسد بن مرداس.
( [76]) الأفائل: الصغار من الأبل، الواحد أفيل.
( [77]) السيرة النبوية لابن هشام (4/147).
( [78]) نفس المصدر (4/147).
( [79]) المصدر السابق (4/147).
( [80]) تاريخ الدعوة الاسلامية، ص151.
( [81]) السيرة النبوية لابن هشام (4/193).
( [82]) تاريخ الدعوة الاسلامية، ص152.
( [83]) تاريخ الاسلام للذهبي، المغازي، ص670.
( [84]) رشته: وصنعت فيه الريش.
( [85]) عقبته: جذبته من عقبه.
( [86]) خطب أبي بكرالصديق، محمد أحمد عاشور، ص118، والرواية فيها انقطاع.