أبو بكر الصديق رضي الله عنه - ( الصدِّيق في ميادين الجهاد(6))

ثامناً: في غزوة تبوك، وإمارة الحج، وفي حجة الوداع:

أ- في تبوك:

خرج رسول الله صل الله عليه وسلم بجيش عظيم في غزوة تبوك بلغ عدده ثلاثين ألفاً وكان يريد قتال الروم بالشام، وعندما تجمع المسلمون عند ثنية الوداع بقيادة رسول الله صل الله عليه وسلم ، اختار الأمراء والقادة وعقد الألوية والرايات لهم، فأعطى لواءه الأعظم الى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ( [87])، وفي هذه الغزوة ظهرت بعض المواقف للصديق منها:

1- موقفه من وفاة الصحابي عبدالله ذو البجادين رضي الله عنه:

قال عبدالله بن مسعود رضي الله عنه: قمت في جوف الليل وأنا مع رسول الله صل الله عليه وسلم في غزوة تبوك، قال: فرأيت شعلة من نار من ناحية العسكر، قال: فاتبعتها، أنظر إليها فإذا رسول الله صل الله عليه وسلم وأبوبكر وعمر، وإذا عبدالله ذو البجادين المزني قد مات، وإذا هم قد حفروا له، ورسول الله في حضرته، وأبوبكر وعمر يدليانه إليه، وهو يقول: أدنيا الى أخاكما، فدلياه إليه، فلما هيأه بشقه قال: اللهم إني أمسيت راضياَ عنه فارض عنه. قال (الراوي عبدالله ابن مسعود): قال عبدالله بن مسعود: ياليتني كنت صاحب الحفرة( [88]).
وكان الصديق رضي الله عنه إذا دخل الميت اللحد قال: بسم الله وعلى ملة رسول الله صل الله عليه وسلم ، وباليقين وبالبعث بعد الموت( [89]).

2- طلب الصديق من رسول الله صل الله عليه وسلم الدعاء للمسلمين:

قال عمر بن الخطاب: خرجنا الى تبوك في قيظ شديد، فنزلنا منزلاً وأصابنا فيه عطش حتى ظننا أن رقابنا ستقطع حتى إن الرجل لينحر بعيره فيعتصر فرثه فيشربه، ثم يجعل مابقي على كبده، فقال أبوبكر الصديق، يارسول الله إن الله قد عوّدك في الدعاء خيراً، فأدع الله، قال: أتحب ذلك؟ قال: نعم، فرفع يديه فلم يردهما حتى قالت السماء -أي تهيئت لإنزال مائها- فأظلت -أي أنزلت مطراً خفيفاً- ثم سكبت فملأوا مامعهم ثم ذهبنا ننظر فلم نجدها جاوزت العسكر( [90]).

3- نفقة الصديق في تبوك:

حث رسول الله صل الله عليه وسلم الصحابة في غزوة تبوك على الإنفاق بسبب بعدها، وكثرة المشركين فيها، ووعد المنفقين بالأجر العظيم من الله، فأنفق كل حسب مقدرته وكان عثمان رضي الله عنه صاحب القدح المعلى في الإنفاق في هذه الغزوة( [91]).
وتصدق عمر بن الخطاب بنصف ماله وظن أنه سيسبق أبابكر بذلك ونترك الفاروق يحدثنا بنفسه عن ذلك حيث قال: أمرنا رسول الله صل الله عليه وسلم يوماً أن نتصدق، فوافق ذلك مالا عندي، فقلت اليوم أسبق أبابكر إن سبقته يوماً، فجئت بنصف مالي، فقال رسول الله صل الله عليه وسلم ، ماأبقيت لأهلك؟ قلت: مثله، قال: وأتى أبوبكر رضي الله عنه بكل ماعنده، فقال له رسول الله صل الله عليه وسلم: ماأبقيت لأهلك؟ قال أبقيت لهم الله ورسوله، قلت: لاأسابقك الى شيء أبداً( [92]).
كان فعل عمر فيما فعله من المنافسة والغبطة مباحاً ولكن حال الصديق رضي الله عنه أفضل منه لانه خال من المنافسة مطلقاً ولا ينظر الى غيره( [93]).

ب- الصديق أمير الحج سنة 9هـ:

كانت تربية المجتمع وبناء الدولة في عصر النبي صل الله عليه وسلم مستمرة على كافة الأصعدة والمجالات العقائدية والاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية والعسكرية والتعبدية وكانت فريضة الحج لم تمارس في السنوات الماضية، وحجة عام 8هـ بعد الفتح كُلِّف بها عتّاب بن أسيد، ولم تكن قد تميزت حجة المسلمين عن حجة المشركين( [94])، فلما حل موسم الحج أراد الحج صل الله عليه وسلم ولكنه قال: (إنه يحضر البيت عراة مشركون يطوفون بالبيت، فلا أحب أن أ حج حتى لايكون ذلك) فأرسل النبي صل الله عليه وسلم الصديق أميراً على الحج سنة تسعة هجرية، فخرج أبوبكر الصديق بركب الحجيج نزلت سورة براءة فدعا النبي صل الله عليه وسلم علياً رضي الله عنه وأمره أن يلحق بأبي بكر الصديق، فخرج على ناقة رسول الله صل الله عليه وسلم: العضباء حتى أدرك الصديق ابابكر بذي حليفة، فلما رآه الصديق قال له: أمير أم مأمور؟ فقال: بل مأمور، ثم سار، فأقام أبوبكر للناس الحج على منازلهم التي كانوا عليها في الجاهلية، وكان الحج في هذا العام في ذي الحجة كما دلت على ذلك الروايات الصحيحة لا في شهر ذي القعدة كما قيل، وقد خطب الصديق قبل التروية، ويوم عرفة، ويوم النحر، ويوم النفر الأول فكان يعرّف الناس مناسكهم: في وقوفهم وإفاضتهم، ونحرهم، ونفرهم، ورميهم للجمرات..الخ وعلي بن أبي طالب يخلفه في كل موقف من هذه المواقف فيقرأ على الناس صدر سورة براءة ثم ينادي في الناس بهذه الأمور الأربعة: لا يدخل الجنة إلا مؤمن، ولايطوف بالبيت عريان، ومن كان بينه وبين رسول الله عهد فعهده الى مدته، ولايحج بعد العام مشرك( [95]).
وقد أمر الصديق ابا هريرة في رهط آخر من الصحابة لمساعدة علي بن أبي طالب في إنجاز مهمته( [96]).
وقد كلف النبي صل الله عليه وسلم علياً بإعلان نقض العهود على مسامع المشركين في موسم الحج مراعاة لما تعارف عليه العرب فيما بينهم من عقد العهود ونقضها أن لايتولى ذلك إلا سيد القبيلة أو رجل من رهطه، وهذا العرف ليس فيه منافاة للاسلام فلذلك تدارك النبي صل الله عليه وسلم الأمر وأرسل علياً بذلك فهذا هو السبب في تكليف علياً رضي الله عنه بتبليغ صدر سورة براءة لا مازعمته الرافضة من أن ذلك للإشارة الى أن علياً رضي الله عنه أحق بالخلافة من أبي بكر وقد علق على ذلك الدكتور محمد ابو شهبة فقال: ولا أدري كيف غفلوا عن قول الصديق له: أمير أم مأمور( [97])؟ وكيف يكون المأمور أحق بالخلافة من الأمير( [98]).
وقد كانت هذه الحجة بمثابة التوطئة للحجة الكبرى وهي حجة الوداع( [99])، لقد أعلن في حجة أبي بكر أن عهد الأصنام قد انقضى، وأن مرحلة جديدة قد بدأت، وماعلى الناس إلا أن يستجيبوا لشرع الله تعالى، فبعد هذا الإعلان الذي انتشر بين قبائل العرب في الجزيرة، ايقنت تلك القبائل أن الأمر جد، وأن عهد الوثنية قد انقضى فعلاً فأخذت ترسل وفودها معلنة إسلامها ودخولها في التوحيد( [100]).

ج- في حجة الوداع:

روى الامام أحمد رضي الله عنه بسنده الى عبدالله بن الزبير عن أبيه أن أسماء بنت أبي بكر قالت: خرجنا مع رسول الله صل الله عليه وسلم حجاجاً حتى أدركنا (العرج)( [101]) نزل رسول الله صل الله عليه وسلم ، فجلست عائشة جنب النبي صل الله عليه وسلم، وزمالة أبي بكر واحدة مع غلام لأبي بكر فجلس أبوبكر ينتظر أن يطلع عليه، فطلع وليس معه بعيره!! فقال: أين بعيرك؟ فقال: أظللته البارحة! فقال أبوبكر: بعير واحد تضله!! فطفق يضربه ورسول الله يبتسم ويقول: انظروا الى هذا المحرم ومايصنع( [102]).

أبوبكرالصّدّيق رَضيَ اللهُ عَنْهُ

شخصيته وعصره

تأليف

الدكتور علي محمد الصَّلاَّبي
________________________________________

( [87]) صفة الصفوة (1/243).
( [88]) صحيح السيرة النبوية، ص598.
( [89]) مصنف عبدالرزاق (3/497) نقلاً عن موسوعة فقه الصديق، ص222.
( [90]) ابن حبان، كتاب الجهاد، باب غزوة تبوك رقم 1707.
( [91]) السيرة النبوية في ضوء المصادر الأصلية، ص615.
( [92]) سنن ابي داود، كتاب الزكاة (2/312-313) رقم 1678 وحسنه الألباني.
( [93]) الفتاوى لابن تيمية (10/72،73).
( [94]) دراسات في عهد النبوة، عماد الدين خليل، ص222.
( [95]) صحيح السيرة النبوية، ص625.
( [96]) السيرة النبوية لأبي شهبة (2/537).
( [97]) صحيح السيرة النبوية، ص624.
( [98]) السيرة النبوية لأبي شهبة (2/540).
( [99]) نفس المصدر (2/540).
( [100]) قراءة سياسية للسيرة النبوية، قلعجي، ص283.
( [101]) العَرْج: واد فحل من أودية الحجاز التهامية. معجم المعالم الجغرافية، ص203.
( [102]) مسند أحمد (6/344).

زائر

:موضوع قيم:

شكرا لمرورك نهاد

اسعدني وجودك في موضوعي

بارك الله فيك

زائر

[size=16][/size]

شكرا لمرورك بسمة

اسعدني تواجدك

جزاك الله خيرا

جزاك الله خيرا ونفع بك ..
حفظك البارئ وسدد على دروب الخير خطاك

» أبو بكر الصديق رضي الله عنه - ( الصدِّيق في ميادين الجهاد(4))
» أبو بكر الصديق رضي الله عنه - ( الصدِّيق في ميادين الجهاد(5))
» أبو بكر الصديق رضي الله عنه - ( الصدِّيق في ميادين الجهاد(1))
» أبو بكر الصديق رضي الله عنه - ( الصدِّيق في ميادين الجهاد(2))
» أبو بكر الصديق رضي الله عنه - ( الصدِّيق في ميادين الجهاد(3))